صادق أمين :

ما ببن آن و آخر نحتاج إلى مراجعة كلمات إخواننا الكرام أصحاب السبق في هذه الدعوة المباركة ذوي اللمسات التربوية؛ الذين فتح الله لهم أفق الرؤيا الثاقبة و التحليل المميز و وضع العلاج الناجع للظروف و الأوقات الحرجة  التي لا نشك أن كل صادق قد عاشها في هذه الأيام و التي جسدت الواقع النفسي الوجداني لمفهوم قهر الرجال الذي استعاذ منه الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ صباح مساء.

و قد كان من هؤلاء المربي الصابر الفاضل ، عاشق السيرة النبوية ، المهندس / حسام حميده ـ رحمه الله ـ  إذ قال لنا :

( تذكرت حوارا دار لي مع مرجعية إخوانية ممن ابتلوا في ذات الله ، فلقد سألته يوما عن أشد ما كان من ألوان العذاب ، فأمسك بيدي وضغط عليها بقوة و كأنه يريد أن يسكب ذلك المعني في نفسي قبل أن يكون في أذني و قال : ( أقسى عذاب عندما يبكي الرجالُ الرجالَ و لا تجد غير البكاء ).

و لا أزعم أني استوعبت هذه الكلمات في سنوات التزامي الأولي، و لكن شاءت إرادة الله أن نعيش تلك المعاني واقعاً فعلياً و نبكي الرجالَ و لا نجد غير البكاء ويتجسد لنا قهر الرجال.

و لكن من خلال تأمل و مسح شامل  لسيرة رسول الله ؛ كنت أبحث عن مواقف فعلية لقهر الرجال، عاشها رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أصحابه، فرأيت أنها كانت لحظات صعبة و مؤثرة و لكنها كانت كذلك لحظات اتصال عجيب بعالم السماء و انصهار عجيب للذات؛ عندما لا تجد في عالم الأسباب ما تركن إليه.

فها هو نوح عليه السلام و هو يكابد لحظة من لحظات قهر الرجال ( فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ) القمر/10

و علق علي تلك اللحظة الأستاذ البهي الخولي فقال: ( إنها لحظة انصهار وجداني يكون العبد فيها أقرب ما يكون من الله ).

و إننا نلاحظ قوة هذه اللحظة و قوة النفس عندها و هي متجردة و متخلية من كل أسباب الشرك؛ إنها و إن بدت في عالم الأرض لحظة ضعف، فإنها عند الله لحظة قرب و اتصال عجيب لقلب خلا من كل أسباب الشرك.

لحظة  تستحق أن ينكسر الناموس و يتخلف القانون الأرضي و يخرج عن النسق المعتاد من أجل الانتصار لذلك النبي المنكسر المغلوب؛ فكان الحدث و كان الطوفان انتصارا لإحساس القهر في ذات الله ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ) القمر/11

و أَلَمْ يعشْ الحبيب محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ لحظة قهر الرجال؟ و ألم يحول هذه اللحظة من حالة ضعف و استكانة إلى لحظة اتصال و قرب؟

أخرج ابن اسحاق في رحلة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى الطائف التي لاقى فيها ما لم يره مخلوق منذ خلق الله السموات و الأرض و ذلك عندما خرج من مكة مضطهدا لنشر الدعوة في الطائف و لكنه لم ير في الطائف إلا التكذيب و السخرية و الاستهزاء و الرجم حتى دُمِيَ كعبه الشريف.

نراه في لحظة قهر و تحرر عجيبة عندما يجلس بين مكة و الطائف و ينقل ما في نفسه من حجم هذه المشاعر في عبارته المؤثرة إلى زيد و هو يقول له: ( إلى أين يا زيد ؟! )، و عندها لم يجد غير عالم السماء يفزع إليه في لحظة القهر؛ محولا إياها لحظة انتصار و قرب، فمن هناك رفع إلى الله الدعاء: ( إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني على الناس ).

يا أحباب: إننا عندما نعيش صدق و قرب هذه الحالة من التجرد؛ نتعلم و نعلم كم نخسر عندما لا نستطيع تحويل لحظة القهر و التجرد إلى لحظات قرب و اتصال؛ نرفع فيها الدعاء و نتذوق فيها حلاوة الانخلاع من عالم الأسباب و الفزع إلى رب الأسباب و عندها فقط نستشعر معني ( أَمَّنْ يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء ). النمل/62

و عندها سيكشف لنا عن سر من أسرار هذا الدين و عن عطاء الله الذي لا يرفع إلى يوم الدين؛ فمن خلال القهر و التمحيص ينصهر فينا كل إحساس بالاستعلاء و نفقد كل إحساس بالأسباب و نتيقن حديث رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: ( إنما تُنصرون و تُرزقون بضعفائكم ).

و فينا سيظل الأشعث و الأغبر و مَنْ لو أقسم على الله لأبره.

هذا و تعتبر لحظة قهر الرجال من أروع اللحظات التي تستفز الملكات و تدفع إلى التحدي  و المبادرات كما سنعرض في المقال القادم ـ إن شاء الله ـ تحت عنوان: قهر الرجال و طاقة التحدي .