الشيخ جعفر طلحاوي :
قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ[1]}
أولا : معنى الركون
الركون : الرُّكُونُ أَدْنَى الْمَيْلِ، وَحَقِيقَتُهُ الِاسْتِنَادُ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا. أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (3/ 26)
من كان مثلك رَكَنَ إليه الدين واستند .... وتوكّأ على جانبه واعتمد
فَالرُّكُونُ هُوَ السُّكُونُ إِلَى الشَّيْءِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ وَنَقِيضُهُ/ النُّفُورُ عَنْهُ،
فحرم الله جل جلاله مجرد الركون والميل إلى الظالمين، دع عنك طاعتهم واتباعهم ونصرتهم وتأييدهم ودعمهم وتشجيعهم ! وجعل الله جزاء الركون إليهم النار والعذاب في الدنيا والآخرة. {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار[2]}.
فى الآية الكريمة لمسة بيانية ، مُتمثِّلة فى التلاؤمٌ البديعٌ بين اللّفظ والمعنى فى تصوير السلوك والتعبير عنه ، وبيانُه أنَّ الرُّكُونَ إلى الذين ظَلَمُوا نوْعٌ من الميْلِ إليهم والاعتماد عليهم، دون انغماس معهم في الظلم، فلاءم هذا المعنى أن يُخْتَارَ في بيان العقاب لفظ {فَتَمَسَّكُمُ النار} لأنّ المسّ فيه معنى ملاصقة النار دون الانغماس فيها.
ثانيا : المراد بهذا الركون المنهي عنه
الأصل فى الركون هو الميل اليسير ، فما المراد به فى الآية الكريمة؟
فى زاد المسير في المراد بقوله تعالى " ولا تركنوا " أربعة أقوال:
أحدها: لا تميلوا ..، قاله ابن عباس.
الثاني: لا تَرضوا أعمالهم، قاله أبو العالية.
الثالث: لا تلحقوا .. ، قاله قتادة.
الرابع: لا تُداهنوا الظلمة قاله السّدّيّ، وابن زيد[3].
وهناك أقوال أخرى فى معنى " ولا تركنوا " إضافة إلى ما فى زاد المسير
الخامس : لَا تودوهم[4] وتُطِيعُوهُمْ قَالَه عِكْرِمَة . تفسير السمعاني (2/ 464) وعن مودة العصاة أنكر المولى عز وجل هذه المودة فقال تعالى " لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[5])" وقد تدفع - أو تكون- المودة سببا للشرك وهو أعظم الظلم وتكون العاقبة وخيمة قال تعالى " وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[6]"[7]
السادس : يقال: ركنت إلى قولك أي أردته وأحببته وقبلته .." أبو عبيدة معمر بن المثنى[8]
وفى الصحيح " الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"[9]
السابع : " لَا تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِهِمْ " بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية (3/ 90) وفى الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ»[10]
الثامن : " لَا تُخَالِطُوهُمْ فِي الْأَعْمَالِ" ، وَقِيلَ، " وَلَا تَنْظُرُوا " ، بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية (3/ 90) وقد نهى الله تعالى عن مخالطة العصاة ومرتكبي الكبائر ، وأمر بالنهوض عنهم وعدم القعود معهم[11] ، قال تعالى " وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا "[12] وقال تعالى :" وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"[13] وفى صحيح البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً [14]"
التاسع : ترك التغيير عليهم مع القدرة " تفسير الألوسي = روح المعاني (6/ 347)
وهناك أقوال فى بيان معنى " ولا تركنوا " لا تعملوا أعمالهم، ولا ترضوا بأعمالهم، ولا تمدحوهم على أعمالهم، ولا تتركوا الأمر بالمعروف لهم، ولا تأخذوا شيئا من حرام أموالهم، ولا تساكنوهم بقلوبكم، ولا تخالطوهم، ولا تعاشروهم ... كل هذا يحتمله الأمر، ويدخل تحت الخطاب.
هذا ومما يدخل فى مدحهم المنهى عنه شرعا نشر وإذاعة " أغنية تسلم الأيادى " لأنه تشجيع على الحرام من سفك الدماء المحرمة , وإزهاق الأرواح البريئة وقتل الأنفس المعصومة ، وقتل غير القاتل ، وغير المقاتل ، ولما كانت القاعدة أن ما أدَّى إلى حرام فهو حرام ، والوسائل تأخذ أحكام المقاصد كان إذاعة هذه الأغنية حرام ، إذ الواجب شرعا إنكار هذا المنكر لا إقراره ، وذم مرتكبي هذه الجرائم لا مدحهم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (لا ينبغي لأحد أن يُقارنهم – يقصد الظالمين - ولا يخالطهم إلا على وجه يسلم به من عذاب الله - عز وجل -، وأقلَّ ذلك - تأمل قولَه: (وأقلُّ ذلك)- أن يكون مُنْكِراً لظلمهم ماقتاً لهم شانئاً ما هم فيه بحسب الإمكان كما في الحديث: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْه بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتطع فَبِقَلْبِه وَذَلِكَ أضْعَفُ الإِيِمَان[15]»[16]
قال البيضاوي : إِذَا كَانَ الرُّكُونُ إلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يُسَمَّى ظُلْمًا كَذَلِكَ فَمَا ظَنُّك بِالرُّكُونِ إلَى الظَّالِمِينَ أَيْ الْمَوْسُومِينَ بِالظُّلْمِ ثُمَّ بِالْمَيْلِ إلَيْهِمْ كُلَّ الْمَيْلِ ثُمَّ بِالظُّلْمِ نَفْسِهِ، والانهماك فيه، وَلَعَلَّ الْآيَةَ أَبْلَغُ مَا يُتَصَوَّرُ فِي النَّهْيِ عَنْ الظُّلْمِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ ، والآية خطاب للرسول - صلّى الله عليه وسلّم - ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فإنه ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه[17].
ففيه وعيد لمن ركن إلى الظلمة أو رضي بأعمالهم أو أحبهم فكيف حال الظلمة في أنفسهم ؟ نعوذ بالله من الظلم.
وقد أمر الشرع الحنيف بنصرة المظلوم فى الصحيح
عن الْبَرَاء بْنَ عَازِبٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْعٍ؛ - وَذكر منها ، نَصْرَ الْمَظْلُومِ "[18] (ونصر المظلوم) مسلمًا كان أو ذميًّا واجب على الكفاية ويتعين على السلطان وقد يكون بالقول أو بالفعل ويكفّه عن الظلم. كما في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري[19] والعضو الذى هنا لم يقم بواجب النصرة للمظلوم ولكن كان عونا للظالم ، بميله إليه ورضاه عنه وعن ظلمه كل ذلك على حساب المظلوم ، وفى الصحيح «أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ يُضْرَبُ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ وَيَدْعُو حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً فَامْتَلَأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ وَأَفَاقَ قَالَ: عَلَامَ جَلَدْتُمُونِي؟ قِيلَ: إنَّك صَلَّيْت بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَمَرَرْت عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ» فَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَنْصُرْ الْمَظْلُومَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى نَصْرِهِ فَكَيْفَ حَالُ الظَّالِمِ؟ (حسن لغيره)[20] وعن جزاء وعاقبة من يقومون بخدمة الظلمة ذكر الهيثمي فى زواجره
أن بَعْضُهُمْ قَالَ: رَأَيْت فِي الْمَنَامِ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ يَخْدُمُ الظَّلَمَةَ وَالْمَكَّاسِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي حَالَةٍ قَبِيحَةٍ فَقُلْت لَهُ: مَا حَالُك؟ فَقَالَ شَرُّ حَالٍ، فَقُلْت لَهُ: إلَى أَيْنَ صِرْت؟ فَقَالَ إلَى عَذَابِ اللَّهِ، قُلْت: فَمَا حَالُ الظَّلَمَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قَالَ شَرُّ حَالٍ، أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ[21]}[22] .
ثالثا: ما مقدار الظلم الذي حرم الله تعالى الركون إلى من وقع منهم ؟
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – فى الفتح فى بيان مقدار الظلم الذي به يحرم الركون - بأيِ من معانيه - إلى من وقع أو يقع منهم هذا المقدار من الظلم : أَيِ الَّذِينَ أُونِسَ مِنْهُمْ أَدْنَى ظُلْمٍ فَكَيْفَ بِالظُّلْمِ الْمُسْتَمَرِّ عَلَيْهِ"[23]
قلت : وَلِإِرَادَةِ ذَلِكَ – أي أدنى ظلم - لَمْ يَقُلْ: إِلَى الظَّالِمِينَ ، فأدنى الظلم كفيل بتحريم أدنى الميل ؛ فكيف بالقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد كما وقع عند دار الحرس والمنصة وميداني رابعة والنهضة والمنصورة ومسجد الفتح وغيرها من المواقع والأماكن ؟؟ قنصا وحرقا وصعقا وتجريفا وخنقا وصبرا – فهذا كله وغيره إضافة إلى الملاحقات والاعتقالات وإلصاق التهم ، وتلفيق القضايا ونقض العهود ونكث الأيمان ، لقد كان توجيه الآية الكريمة بالنهى عن الركون لأدنى ظلم فما بالك بهذا المسلسل من المظالم؟؟!!
وقد حفظ الله تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه من هذا الركون ولو قليلا إلى العصاة والظلمة
قال تعالى : " وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا "[24] وكل مسلم صادق فى إسلامه ، صادق فى إيمانه واتباعه لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، لا يركن إليهم بأي معنىً من معاني الركون – التي كشفنا النقاب عنها - تأسيا واقتداء بصفوة الخلق صلوات الله وسلامه عليه
الرُّكُونُ إلَى الشَّيْءِ هُوَ السُّكُونُ إلَيْهِ وَالْمَيْلُ إِلَيْهِ بِالْمَحَبَّةِ من أركنه إذا أماله، "
والنهي متناول لانحطاط فِي هَوَاهُمْ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِمْ، وَمُصَاحَبَتَهُمْ، وَمُجَالَسَتَهُمْ، وَزِيَارَتَهُمْ، وَمُدَاهَنَتَهُمْ، وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِمْ، وَالتَّزَيِّيَ بِزِيِّهِمْ، وَمَدَّ الْعَيْنِ إِلَى زَهْرَتِهِمْ، وَذِكْرَهُمْ بِمَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ.
- وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظالمين - وذِكْرُهُم بما فيه تعظيم لهم"[25]. وَنَقِيضُ الركون النُّفُورُ عَنْهُ[26] قال الألوسي – في روح المعاني – " ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي، وكذا القيام لهم ونحو ذلك، ومدار النهي على الظلم "[27]
فالآية دَالَّةٌ عَلَى هِجْرَانِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ صُحْبَتَهُمْ كُفْرٌ أَوْ مَعْصِيَةٌ، إِذِ الصُّحْبَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنْ مَوَدَّةٍ"[28] . قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: الرُّكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الرِّضَا بِمَا عَلَيْهِ الظَّلَمَةُ مِنَ الظُّلْمِ وَتَحْسِينُ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَتَزْيِينُهَا عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي شَيْءٍ. مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ فَأَمَّا مُدَاخَلَتُهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ أَوِ اجْتِلَابِ مَنْفَعَةٍ عَاجِلَةٍ فَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي الرُّكُونِ
رابعا : أجل وأمد هذا النهي : هُوَ نَهْيٌ عَنْ الرُّكُونِ إلَيْهِمْ مَا أَقَامُوا عَلَى الظُّلْمِ
كقوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لَمْ يَنْفِ بِهِ الْعَهْدَ عَمَّنْ تَابَ عَنْ ظُلْمِهِ; لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُسَمَّى ظَالِمًا كَمَا لَا يُسَمَّى مَوْسُومًا مَنْ تَابَ مِنْ الْكُفْرِ كَافِرًا. وَمَنْ تَابَ مِنْ الْفِسْقِ فَاسِقًا، وَإِنَّمَا يُقَال: كَانَ كَافِرًا، وَكَانَ فَاسِقًا، وَكَانَ ظَالِمًا; وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: لَا يَنَالُ عَهْدِي مَنْ كَانَ ظَالِمًا وَإِنَّمَا نَفَى ذَلِكَ عَمَّنْ كَانَ مَوْسُومًا بِسِمَةِ الظَّالِم، وَالِاسْمُ لَازِمٌ لَهُ بَاقٍ عَلَيْهِ. ما بقي على ظلمه
خامسا: الظالم مغموس فى النار والراكن إليه ممسوس منها
لَمَّا نَهَى - تعالى - عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ - وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَيْهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِمْ - وَكَانَ ذَلِكَ دُونَ مُشَارَكَتُهُمْ فِي الظُّلْمِ ، أَخْبَرَ أَنَّ الْعِقَابَ عَلَى الرُّكُونِ - وَهُوَ مَسُّ النَّارِ - دُونَ الْعِقَابِ عَلَى الظُّلْمِ وهُوَ الْإِحْرَاقِ وَالِاضْطِرَامِ والاصطلاء وَإِنْ كَانَ الْمَسُّ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِشْعَارُ بِالْعَذَابِ. وقد يطلق ويراد به الاستئصال بالعذاب وشمول العقاب أكبر مجازاً، والمس أول ألم يباشره الممسوس
فعذاب من يركَنُ إلى الظالمين نوع من عذاب الظالمين، لكنَّهُ دُونه في الكيف والكَمّ، إنّه للراكنين مسّ، بينما للظالمين غمسٌ.
فالظالم فى النار مغموس ، والراكن إليه ممسوس من النار ، فأصاب كلا من النار بقدر ظلمه ، فسبحان الله أعدل الحاكمين ، ولا يظلم ربك أحدا. وشتان بين الممسوس والمغموس يقول تعالى عن نفحة واحدة
" وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ "[29]
وفى الصحيح" عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِ الْمِرْجَلُ، - يعني القدر - مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا»[30]
هذا عذاب غير مضاعف ولا مركب ، وإلا فهناك العذاب المضاعف ، وهناك طبقات من العذاب ، وهناك سرادقات من العذاب – والعياذ بالله - يقول تعالى
1-" يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا"[31]
2-"يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا"[32]
3-"إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ* لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ"[33]
4-"إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ"[34] )
5-"يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"[35]
6-"إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا"[36])
وفى الصحيح ما يشهد بالغمس فى النار عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً - أي يغمس فيها - ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ "[37] إنه والله ينسى كل نعيم مر به في الدنيا بغمسة واحدة في النار فكيف به وهو مخلد فيها أبدا.
الظُّلْمُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَفْظَعِهَا شَنَاعَةً وَهُوَ سَبَبٌ لِخَرَابِ الْعَالَمِ وَهَلَاكِ الْعِبَادِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ "[38] " فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"[39] وَالْمُلْكُ يَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ وَلَا يَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ وَهُوَ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}[40] - قِيلَ لَفْظُ ظَالِمٍ فِي الْقُرْآنِ هُوَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ إلَّا هَذِهِ الْآيَةَ
قال القاضي ابن العربي - رحمه الله تعالى - عند تفسير هذه الآية : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالَحَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَا يُرْكَنُ إلَيْهِ فِيهَا. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَصْحَبَ عَلَى الْكُفْرِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كُفْرٌ؛ وَلَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ قَالَ اللَّهُ فِي الْأَوَّلِ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[41] وَالْآيَةُ إنْ كَانَتْ فِي الْكُفَّارِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِيهِمْ وَفِي الْعُصَاةِ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ قَوْلِهِ: " وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " [42].
وَقَدْ قَالَ حَكِيمٌ:
عَنْ الْمَرْءِ لَا تَسَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ مُقْتَدٍ
وَالصُّحْبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ مَوَدَّةٍ"[43]
قال الفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}[44] : «مِمَّنْ كَانُوا ، وَحَيْثُ مَا كَانُوا ، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ كَانُوا»[45]
سادسا : حكمة النهي الإلهي عن هذا الركون إلى الظلمة
وحكمة النهي الإلهي عن الركون إلى الظلمة ، أن ذلك فيه معنى الإقرار لهم على ظلمهم
جاء فى الظلال : لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا. إلى الجبارين الطغاة الظالمين , أصحاب القوة في الأرض , الذين يقهرون العباد بقوتهم ويُعبَّدونهم لغير الله من العبيد. . لا تركنوا إليهم فإن ركونهم إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه , ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير. (فتمسكم النار) جزاء هذا الانحراف. (وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)[46].
سابعا: نموذج من السلف فى عدم الركون إلى الذين ظلموا
قال ابن عبد ربه فى العقد الفريد لقي أبو جعفر سفيانَ الثوري في الطواف، وسفيان لا يعرفه، فضرب بيده على عاتقه وقال: أتعرفني؟ قال: لا، ولكنك قبضت عليّ قبضة جبّار، قال: عظني أبا عبد الله. قال: وما عملت فيما عملت فأعظك فيما جهلت؟ قال: فما يمنعك أن تأتينا؟ قال: إن الله نهى عنكم فقال تعالى:" وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" فمسح أبو جعفر المنصور يده به ثم التفت إلى أصحابه فقال: ألقينا الحَبَّ إلى العلماء فلقطوا إلا ما كان من سفيان فإنه أعيانا فرارا" [47].
عند القزويني زيادة على هذا القدر