فدوى حلمي :
إنّ أصل علاقة العسكر بجماعة الإخوان المسلمين في مصر لم تكن علاقة تعارض ونزاع بل على العكس تماماً، فقد كانت علاقة متوازنة في مسار توافقي مشترك الأهداف، علاقة يمكن إيجازها في صورة غلاف مجلة التحرير الصادرة في العدد 44 من عام 1954م تحت عنوان (لحظة خشوع على قبر البنّا) قبل ثمانية أشهر فقط من قرار جمال عبد النّاصر بحل الجماعة، هذا المشهد هو ليس الأول الذي يقف فيه جمال عبد النّاصر كتلميذ أمام قبر معلمه، فقد سبق وحيّر هذا المشهد الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه قذائف الحقّ فيقول: "والحقّ إنّي حائر في فهم جمال عبد النّاصر، ..أقررُ أنّ جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين بايعا فى ليلة واحدة على نصرة الإسلام ورفع لوائه، وقد كنتُ قريباً من مشهد مثير وقف فيه جمال عبد الناصر أمام قبر حسن البنّا يقول: "نحن على العهد وسنستأنف المسيرة" ، كان ذلك عقب قيام الثورة بأشهر قلائل، وقد وضع كتاب مسلمون كبار مقدمات للرسائل التى كانت تصدر تحت عنوان ( اخترنا لك ) أمضاها جمال عبد النّاصر وفيها أشرف ما يؤكده زعيم مسلم نحو أمته ودينه، لا أدري ما حدث بعد ذلك". و يروي الضابط خالد محيي الدين أحد الضباط الأحرار في كتابه (والآن أتكلم) قصة مبايعته وجمال عبدالنّاصر لحسن البنّا بعد لقاءات متعددة جمعتهما به، فيقول : "اتصل بنا صلاح خليفة، وأخذنا – أنا وجمال عبدالنّاصر- إلى بيت قديم..،ووضعنا يدنا على مصحف ومسدس، ورددنا خلف هذا الصوت يمين الطاعة للمرشد العام في المنشط والمكره (الخير والشرّ) وأعلنا بيعتنا الكاملة والشاملة له على كتاب الله وسنّة رسوله، وبرغم هذه الطقوس المفترض فيها أن تهزّ المشاعر، فإنّها لم تترك إلّا أثراً محدوداً سواء في نفس عبدالنّاصر أو نفسي." ووفقاً للروايتين السابقتين تتضح الولادة الشرعيّة في المفهوم التنظيمي لجمال عبد النّاصر في كنف جماعة الإخوان المسلمين وعلى يد مؤسسها حسن البنّا.
ومن خلال الاستناد إلى العديد من الشواهد تتأكد العلاقة الإيجابية المتينة بين جماعة الإخوان المسلمين والضباط الأحرار، إلى حدّ اعتبار ثورة 23 يوليو 1952م ثورة إسلاميّة منذ ميلادها عبر أولى القرارات الصادرة عن قيادة الثورة بالاتفاق ما بين جمال عبد النّاصر و عبدالرحمن السندي ممثل جماعة الإخوان، وهذا كان في اجتماع ضمهما قبل قيام الثورة بخمسة أيام فقط بحسب شهادة المستشار الدمرداش العقالي، ويروي أحد الضباط الأحرار الملازم أول حسين حمودة في كتابه (أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمين) أنّ الخلية الرئيسية في تنظيم الإخوان المسلمين داخل الجيش المصريّ كانت تعمل سرّاً منذ عام 1944م وقد كانت مكوّنة من سبعة ضباط هم : (عبد المنعم رؤوف، جمال عبد النّاصر، كمال الدين حسين، سعد توفيق، خالد محيي الدين، حسن حمودة، صلاح خليفة)، ويضيف حسين حمودة: "وقد اشترك الإخوان المسلمون في ثورة يوليو 1952م بواسطة الضباط المنتمين للجماعة والذين كانوا يشكلون أغلبية في تنظيم الضباط الأحرار الذي قام بالثورة ليلة 22-23 يوليو 1952م، لقد نُفذت الثورة بواسطة 99 ضابطاً من ضباط الجيش كان معظمهم من الإخوان المسلمين، كما اشترك الجهاز السريّ المدنيّ للإخوان المسلمين في ثورة يوليو 1952م، وقد علمتُ ذلك من جمال عبد النّاصر شخصياّ." استمرت ثورة 23 يوليو ذات الجذور الإخوانية في علاقة الوفاق مع جماعة الإخوان المسلمين، فقد كان الأديب سيّد قطب المدنيَّ الوحيد الذي يُسمح له بحضور بعض جلسات مجلس قيادة الثورة، بعدما تمّ اختياره كمستشار لمجلس قيادة الثورة للشؤون الثقافية والعُمّاليّة، وقد بلغ سيّد من تأييده للثورة أنّه لُقّب من قبل بعض الكتاب المصريين ب (ميرابو الثورة المصريّة)، لكنّ جوّ الوئام هذا سرعان ما اصطدم مع الخلاف بين رؤية إسلاميّة مصر من المنظور الإخواني ورؤية عَلمانيّة مصر من المنظور الناصريّ، فبعدما استثمر جمال عبد النّاصر قوة جماعة الإخوان المسلمين في المجتمع المصريّ، واستند على امتزاجها الواسع بمختلف الفئات لتثبيت دعائم سلطته، وحصد لنفسه نتاج تاريخ طويل من العمل والنضال السياسي والاجتماعي لجماعة الإخوان المسلمين، رفع شعار (الدين لله، والوطن للجميع)، وانقضّ جمال عبد النّاصر على جماعة الإخوان المسلمين بعد مسرحية المنشية عام 1954م بربط الجماعة بالإرهاب وتخريب مصر، هذا العداء الذي يُرى في ظاهره متعلق بجماعة الإخوان فقط، كان يراه الشيخ محمد الغزالي هجوم على الإسلام ذاته، فيقول في كتابه قذائف الحقّ: "وقد أفهم أن تشتبك السلطات الحاكمة مع أفراد أو جماعات ينازعونها السيادة لغرض سيء أو حسن! لكن هل يُقال: إنّ التاريخ الإسلامي يعين على تكوين جماعة الإخوان، فليمسخ هذا التاريخ! أو: إنّ البيئات المتدينة مستودع يستمد منه الإخوان، فلتُحارب هذه البيئات؟؟ إنّ هذا القول يعني بداهة نقل الخصومة من ميدان إلى ميدان آخر، وأنّ الإسلام ذاته قد أصبح عرضة للعدوان."
خشوع جمال عبد النّاصر كما وصفته مجلة التحرير بين يدي حسن البنّا، يتوافق إلى حد كبير مع صور كثيرة تُظهر المشير عبد الفتّاح السيسي بين يدي الرئيس المنتخب محمد مرسي ولداً مُطيعاً، كثيرون يطيب لهم توصيف العلاقة بين العسكر والإخوان على أنّها صراع قوى على الحكم، مع أنّها في الحقيقة هي خيانة مُستأمَن وهم العسكر لاتفاق تعاوني مع جماعة نالت في أكثر من مرّة التفاف الشعب المصري حولها، وبغض النظر عن براعة جمال أو السيسي في التمثيل واستدراج الإخوان إلى مأزق مصر كلها واحد والإخوان الآخر المغاير لكل ما تمثله مصر، من خلال الأدوات ذاتها الإعلام و لصق الإرهاب بالجماعة، وحتى وإنْ رأى الكثير من المحلّلين تكرر أخطاء جماعة الإخوان المسلمين في حقبة جمال عبد النّاصر في علاقتها مع العسكر في بوتقة العلاقة مع عبد الفتّاح السيسي، إلّا أنّه ليس بالضرورة أن تؤدي الحالة السيساوية إلى نتائج الحالة الناصريّة ذاتها، و ما زالت الفرصة مواتية أمام جماعة الإخوان المسلمين لتغيير النهاية واسترداد المسار التاريخي لثورة الشعب المصريّ في 23 يوليو 1952.