علي حسن الغباشي*
تشهد جامعات مصر هذه الأيام انتفاضة طلابية غير مسبوقة ضد الانقلاب العسكري , يقدم خلالها الطلاب الغالي والثمين من أجل الوطن, حيث تروي دماؤهم الذكية شجرة الوطن المتعطش لنسيم الحرية, فلم يضن الطلاب بأي شيء ... قدموا أرواحهم الأبية فداءً لمصر و ابتغاء مرضاة الله في مشهد جليل تهتز له أرجاء المعمورة ويقف أمامه العالم أجمع في انبهار وخشوع .
هذه الملحمة الطلابية تعلم الأجيال معنى الحرية وتدشن بحق الميلاد الثاني للحركة الطلابية المصرية العريقة في صدقها ووطنيتها وعنفوانها مستلهمين المجد الطلابي الضارب في جذور التاريخ على مر العصور.
وللحركة الطلابية بصفة عامة أثر كبير في نجاح الثورات وصناعة التاريخ , والحركة الطلابية المصرية بصفة خاصة لها تاريخ عريق في قيادة الثورات وكتابة تاريخ الوطن ؛ حتى قال عنها المؤرخ الفرنسي " والتر لاكير" " لم يلعب الطلاب دورا في الحركة الوطنية مثل الدور الذي لعبه الطلاب في مصر".
منذ الاحتلال الفرنسي لمصر وقيام ثورة القاهرة الأولى والثانية التي كان محركها ومدبرها هم طلاب وأساتذة الأزهر الشريف ( جامعة الأزهر تقوم بنفس الدور في مقاومة الانقلاب العسكري )
ثم جاء الاحتلال البريطاني عام 1882 م لمصر وطال هذه المرة أمد الاحتلال مما فجر حركة طلابية قوية لمواجهة المحتل وأذنابه و إيقاظ الروح الوطنية لدى عموم الشعب المصري عبر تقديم التضحيات المتتالية فداءً للوطن
فقد قام الزعيم مصطفى كامل - رحمه الله - بتنظيم صفوف طلبة المدارس العليا لدعم الحركة الوطنية فأنشأ (نادي المدارس العليا) عام 1905 بهدف تنمية الوعي السياسي للطلبة وتعبئتهم ضد الاحتلال البريطاني.
ومع انطلاق ثورة 1919ضرب الطلاب أروع الأمثلة في افتداء الوطن , وخرج طلاب المدارس يستقبلون الرصاص بصدور عارية وقلوب أرسي من الجبال ثقة في نصر الله . وتزايدت مشاركة الطلبة في الحركة الوطنية وأكسبتها زخما جديدا وأشعلت حماس الجماهير
وكان لتأسيس الجامعة المصرية عام 1925 دور كبير في تجميع وصقل مواهب وقدرات قادة الحركة الطلابية .
وتعد حقبة الأربعينات من القرن الماضي هي الفترة الذهبية للحركة الطلابية المصرية لما شهدته من أحداث كبيرة شكلت وجه مصر ومستقبلها فيما بعد .
آنذاك كانت دعوة الإخوان المسلمين تنتشر بشكل كبير في مختلف جامعات مصر وكان للإخوان تأثير كبير في شكل ومضمون الحركة الطلابية .. ليس في الجانب السياسي فحسب بل تعدى هذا إلى الجوانب الثقافية والاجتماعية فمثلا ً:
أسس طلبة الإخوان رابطة البحوث الاقتصادية والسياسية الإسلامية بكلية التجارة 1938 م وتطورت حتى أصبحت جمعية الدراسات الإسلامية للاقتصاد والسياسة .
§ تصدى طلبة الإخوان لعدة كتب إنجليزية تهاجم الإسلام والرسول الكريم في كلية الآداب. وقاموا بعقد ندوات ومناظرات مع الدكتور طه حسين - رحمه الله - .
§ كما قام طلاب الإخوان بإنشاء بيوتًا للطلبة (مدنًا جامعيةً مصغرة) للرعاية وتقديم الخدمات الشاملة للطلاب المغتربين .
أما الحالة الوطنية والسياسية خلال تلك الحقبة قكانت المشاعر الوطنية ملتهبة خاصة فى العام الدراسي 1945 /1946 :
§ فقام طلاب الإخوان بأضخم مظاهرات عرفتها مصر فى هذا الوقت وذلك بتنسيق خروج المدارس الإعدادية والثانوية مع طلاب الجامعات للمطالبة بالجلاء ووحدة وادي النيل مما أرعب الجيش الانجليزي فقام بإطلاق الرصاص الحي وحاصرو الطلبة علي كوبري عباس ( قصر النيل ) وقاموا بفتحه ليغرق الطلبة في النيل واستشهد وأصيب في تلك التظاهرات عدد كبير من الطلاب . وقعت هذه الأحداث خلال شهر فبراير, وقد اختارت الأمم المتحدة يوم 21 فبراير ( يوم حادثة كوبري عباس ) ليكون يوم الطالب العالمي , تقديرا لتضحيات طلاب مصر .
كما قام طلاب الإخوان بمظاهرات عارمة لإسقاط معاهدة صدقي- بيفين المجحفة بحقوق مصر الوطنية وبالفعل سقطت المعاهدة واستقال رئيس الوزراء إسماعيل صدقي , واستطاع الطلاب خلال هذه القترة إسقاط ثلاث وزارات متتالية بسبب مواقفها غير الوطنية أو قراراتها الهوجاء غير المدروسة ( وزارة صدقي – النقراشي - إبراهيم عبد الهادي)
وفي هذه القترة وتحديدا عام 1947 قام زعيم طلاب الجامعة مصطفى مؤمن بالسفر إلى الولايات المتحدة وألقى كلمة بمجلس الأمن عن حق مصر في التحرر من الاحتلال وعن قضية فلسطين , وطغت كلمة زعيم الطلاب على كلمة رئيس الوزراء النقراشي باشا واهتمت الصحافة العالمية بمؤمن وأبرزت تصريحاته.
استمر طلاب مصر في حراكهم وتظاهراتهم حتى أسقطوا حكومة إبراهيم عبد الهادي الذي حل جماعة الإخوان وصادر ممتلكاتها ! ( ما أشبه الليلة بالبارحة ! ) وتولى النحاس باشا الوزارة , واستجابة للضغط الشعبي المتزايد وللحركة الطلابية المتأججة ألغى مصطفى النحاس اتفاقية 1936 ودخلت مصر في صراع مع قوات الاحتلال البريطاني .
طلاب مصر كانوا على العهد.... قادوا العمل الفدائي ضد قوات الاحتلال و قام طلاب الإخوان بعمل معسكرات لتدريب الطلاب على فنون القتال في كل من جامعات ( القاهرة - الأزهر -عين شمس ) وكان الأستاذ مهدي عاكف ( المرشد السابق للإخوان والمعتقل حاليا في سجون الانقلابين) يشرف على هذه المعسكرات .
وخاض طلاب مصر معارك بطولية في مدن قناة السويس قضت مضاجع العدو وأجبرت المحتل في النهاية على الانسحاب والخروج العاجل من مصر.
قاد طلاب الإخوان أكبر معركة شهدها القنال ضد الإنجليز (معركة التل الكبير يناير 1952 ) وقد علق الكاتب الإنجليزي " جوردن ووتر فيلد " في كتاب بعنوان "مصر" قائلا: أنَّ تلك المعركة التي خاضها شباب الإخوان اضطرت رئيس وزراء بريطانيا آنذاك "ونستون تشرشل" إلى قطع إجازته والعودة إلى لندن ليشرف بنفسه على خطط وزارة الدفاع لمواجهة تزايد أعمال المقاومة التي كان يقودها الإخوان المسلمون ضد القوات البريطانية . وصرَّح تشرشل رئيس وزراء بريطانيا تصريحه الشهير: " لقد نزل إلى الميدان عنصر جديد"....
§ واستشهد عدد من الطلاب خلال معارك القنال منهم عمر شاهين وأحمد المنيسي من جامعة القاهرة وخرجت جنائز الطلاب في مواكب مهيبة يتقدمها رئيس الجامعة والأساتذة , وظلت جامعة القاهرة لعدة سنوات تحيي ذكرى استشهادهم وأطلقت أسماءهم على عدد من مدرجات الجامعة كما سميت بعض شوارع القاهرة بأسمائهم.
واليوم يقدم طلاب مصر ملحمة بطولية في فداء الوطن ومقاومة الانقلاب الدموي الفاشي, المبهر هذه المرة حجم التضحيات التي يبذلها الطلاب والطالبات اللاتي أضفن روحا جديدة للحركة الطلابية وأصبحن أيقونات للثورة ورموزا ملهمة للحركة الطلابية مثل ( أسماء البلتاجي – هالة أبوشعيشع – سمية عبد الله ) وجميع الشهداء.
أبناء مصر البررة من طلاب وطالبات الجامعات قدموا تضحيات غير مسبوفة في تاريخ الحركة الطلابية؛ وفقا لعدة احصائيات منها احصائية اتحاد طلاب مصر بلغ عدد شهداء الطلاب منذ الانقلاب الغاشم أكثر من 260 شهيد وشهيدة وأكثر من 600 معتقل هذا بخلاف مئات المصابين من مختلف جامعات مصر وان استأثرت جامعة الأزهر بالنصيب الأوفى حيث أصالة وعراقة الأزهر تأبي إلا المقدمة في افتداء الوطن الغالي.
هذه الصفحات المشرقة التي سطرها طلاب مصر بدمائهم الذكية دشنت بحق الانطلاقة الثانية للحركة الطلابية بعد العصر الذهبي في الأربعينيات ,وقلدت الطلاب والطالبات أرفع أوسمة المجد والخلود في ذاكرة الوطن والإنسانية على السواء.
ما لا يدركه الانقلابيون القتلة أن طلاب مصر دائما منتصرون في أي قضية كانوا طرفا فيها والتاريخ خير دليل ؛ لأن الطلاب بما وهبهم ربهم من صدق توجه ونقاء وحماسة وطنية لا ينحازون إلا لمصلحة ومستقبل الوطن, لا تمنعهم مصالح ولا تعوقهم أي ارتباطات , فينخرطون في مقاومة الظلم سواء كان احتلال خارجي أو طغيان داخلي, ولا تهدأ حركة الطلاب إلا بالنصر التام .
فليعد الانقلابيون العدة للرحيل والنجاة بأنفسهم لأن شعب مصر وقلبه النابض الطلاب أعلونها مدوية.. تشق عنان السماء ..مخضبة بالدماء الطاهرة .. مصر لن تختطف من عصابة عسكرية أو شلة علمانية , وقال الطلاب كلمتهم.. المستقبل لوحدة وطنية بروح إسلامية عصرية ... المجد للطلاب ... المجد للشهداء الأبرار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وصحفي مصري مقيم بالسعودية