محمد منصور : 

صدق الأستاذ العقاد حينما قال:

( إن الصبرَ علي أداء الواجب درجةٌ رفيعة من درجات الأخلاق الإنسانية، و أرفع منها الصبر علي أداء الواجب؛ الذي لم يكلفك أحدٌ به، ولا يسألك أحدٌ عنه، و أرفعُ من هاتين الدرجتين صبرُ الإنسان علي أداء واجبٍ يُضارُ بأدائه، و ينتفع بتركه، وقد يتركه فيغنم الثناء و الثريا؛ تلك درجة الدعاة الصادقين ).

ورحم الله أحد الإخوان حينما قال:

( لقد اختلطت الدعوة بدمي، حتى لو جُرحتُ، و سقط دمي يجري علي الأرض؛ لكتب: الله أكبر و لله الحمد ).

وفي مقابل تلك الصورتين الوضيئتين يقول الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري : أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله؛ فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقلني!، فقال النبي: إن الإسلام لا يُقال، فقال: إني لم أُصب في ديني هذا خيراً!؛ ذهب بصري ومالي و ولدي!، فقال النبي: يا يهودي، إن الإسلام يَسْبِكُ الرجال؛ كما تسبك النار خبث الحديد والفضة والذهب؛ فأنزل الله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ). الحج / 11/ تفسير ابن كثير.

و يعلق الأستاذ / سيد قطب ـ رحمه الله ـ على هذه الآية قائلا:

( هو نموذج مكرور في كل جيل؛ ذلك الذي يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة، ويظنها صفقة في سوق التجارة، في حين أن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن؛ تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة، وتتجاذبه الأحداث والدوافع؛ فيتشبث هو بالصخرة التي لا تتزعزع، و تتهاوى من حوله الأسناد فيستند هو إلى القاعدة التي لا تحول ولا تزول .

هذه قيمة العقيدة في حياة المؤمن، ومن ثَمَّ يجب أن يستوي عليها، متمكنا منها واثقا بها، لا يتلجلج فيها ولا ينتظر عليها جزاء؛ فهي في ذاتها جزاء؛ ذلك أنها الحمى الذي يلجأ إليه والسند الذي يستند عليه .

أجل هي في ذاتها جزاء على تفتح القلب للنور وطلبه للهدى؛ ومن ثم يهبه الله العقيدة ليأوي إليها، ويطمئن بها .

 هي في ذاتها جزاء؛ يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله، تتجاذبهم الرياح وتتقاذفهم الزوابع ويستبد بهم القلق، بينما هو بعقيدته مطمئن القلب، ثابت القدم، هادئ البال، موصول بالله، مطمئن بهذا الاتصال.

أما ذلك الصنف من الناس الذي يتحدث عنه السياق فيجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة: (فإن أصابه خير اطمأن به)، وقال : إن الإيمان خير؛ فها هو ذا يجلب النفع, ويدر الضرع, وينمي الزرع, ويربح التجارة ويكفل الرواج، (وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة)، خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه؛ فلم يصبر عليه ولم يتماسك له ولم يرجع إلى الله فيه، وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه وانكفائه عن عقيدته وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسرا له.

والتعبير القرآني يصوره في عبادته لله (على حرف) غير متمكن من العقيدة ولا متثبت في العبادة، يصوره في حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى، ومن ثَمَّ ينقلب على وجهه عند مس الفتنة ووقفته المتأرجحة تمهد من قبل لهذا الانقلاب!

إن حساب الربح والخسارة يصلح للتجارة ولكنه لا يصلح للعقيدة؛ فالعقيدة حق يعتنق لذاته، بانفعال القلب المتلقي للنور والهدى الذي لا يملك إلا أن ينفعل بما يتلقى والعقيدة تحمل جزاءها في ذاتها ؛ بما فيها من طمأنينة وراحة ورضى ، فهي لا تطلب جزاءها خارجا عن ذاتها .

و المؤمن يعبد ربه شكرا له على هدايته إليه وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به، فإن كان هنالك جزاء فهو فضل من الله ومنة.

والمؤمن لا يجرب إلهه؛ فهو قابل ابتداءً لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداءً لكل ما يجربه عليه، راضٍ ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء، وليست هي صفقة في السوق بين بائعٍ وشارٍ، إنما هي إسلام المخلوق للخالق ، صاحب الأمر فيه ومصدر وجوده من الأساس .

والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب:( ذلك هو الخسران المبين) يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى، إلى جوار خسارة المال أو الولد أو الصحة أو أعراض الحياة الأخرى التي يفتن الله بها عباده ويبتلي بها ثقتهم فيه وصبرهم على بلائه وإخلاصهم أنفسهم له واستعدادهم لقبول قضائه وقدره و يخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان .