شيرين عرفة :

في كتاب مذكراته : ( الآن أتكلم )  يقول ( خالد مُحيي الدين ) وهو ضابط سابق بالجيش المصري إبان العصر الملكي وأحد الضباط الأحرار ذو الفكر اليساري :
( وثمة واقعة هامة لابد من وضعها في الاعتبار فقبل زيارة الملك سعود مباشرة وقعت ستة انفجارات دفعة واحدة في مدينة القاهرة منها انفجارات في الجامعة وانفجار في جروبي وآخر في مخزن الصحافة بمحطة سكك حديد القاهرة
, وبدأ البعض يستشعر أن الزمام يفلت وأن الأمن غير مستقر وأنه من الضروري إحكام قبضة النظام وإلا سادت الفوضى ,

وقد روي لي ( بغدادي ) (وعاد فأكد ذلك في مذكراته) أنه في أعقاب هذه الانفجارات زار ( جمال عبد الناصر ) في منزله هو و ( كمال الدين حسين ) و( حسن إبراهيم ) ليناقشوا معه تطورات الأوضاع وأبلغهم عبد الناصر أنه هو الذي دبر هذه الانفجارات لإثارة مخاوف الناس من الاندفاع في طريق الديمقراطية والإيحاء بأن الأمن قد يهتز وأن الفوضى ستسود وبطبيعة الحال فإن الكثيرين من المصريين لا يقبلون أن تسود الفوضى بصورة تؤدي إلى وقوع مثل هذه الانفجارات ).

وعن حشد المظاهرات بالشارع المناهضة للمسار الديمقراطي والمؤيدة لتوجهات ( عبد الناصر )  يقول ( خالد محيي الدين ) في موضع آخر من كتابه : (  وبدأ  عبد الناصر في ترتيب اتصالات بقيادات عمال النقل العام لترتيب الإضراب الشهير , و سأورد هنا ما سمعته من عبد الناصر بنفسي فعند عودتي من المنفى التقيت مع عبد الناصر وبدأ يحكي لي ما خفي عني من أحداث أيام مارس الأخيرة وقال بصراحة نادرة : لما لقيت المسألة مش نافعة قررت أتحرك وقد كلفني الأمر أربعة آلاف جنيه ).

هذا نص ما ذكره ( خالد محيي الدين ) في مذكراته عما شاهده بنفسه من حيل وأفاعيل قام بها ( جمال عبد الناصر ) في العام 1954 م لإحكام سيطرة الجيش على حكم البلاد والقضاء على مسار الديمقراطية التي أراد رئيس الجمهورية وقتها ( محمد نجيب ) السير فيه .

بينما ( حبيب سويدية) ذلك الضابط الشاب و المظلي السابق في القوات الخاصة للجيش الجزائري , والذي تخرج في الكلية الحربية , وعمل في صفوف القوات النظامية  ابتداءً من عام 1989م , يقدم لنا في كتابه ( الحرب القذرة )  أول شهادة يدلي بها ضابط جزائري بجرأة متناهية , عن ذكرياته التي عاشها يومًا بيوم في تلك الحرب القذرة و التي مارسها جنرالات الجيش الموالين لفرنسا و مزقت الجزائر منذ العام 1992م ولأكثر من عشر سنوات ,  و يروي ما شاهده بعينه : من عمليات تعذيب , و إعدامات ميدانية , واغتيالات .
و يكشف في كتابه عن وقاحة هؤلاء الجنرالات ووحشيتهم الشديدة و الذين قاموا بإنقلاب دموي على أول حكومة إسلامية حازت على أكثر من ثمانين بالمئة من أصوات الجزائريين وهي حكومة ( جبهة الإنقاذ الإسلامية ) حيث تم إلغاء الإنتخابات ,  و حل الحزب وحظره إلى الآن من المشاركة في الحياة السياسية , وإعتقال ما يقرب من عشرين ألفا من أعضائه  , ثم إشعال البلاد وإغراقها في حمامات للدماء , وتحدث ( سويدية )  في كتابه عن غسيل الأدمغة الذي يُخضعون له جنود الجيش  , وأيضاً تكلم عن يأس بعض الجنود المُكرهين على القيام بأفعال وحشية , وكذلك الجنود الذين فتكت بعقولهم المخدرات , وعمليات التطهير التي كان الجيش يقوم بها ليضمن ولاء الجنود لقادته الكبار  .

 وقد أثار  الكتاب  صدمة كبيرة، وموجة غضب عارمة داخل الجزائر والوطن العربي .

و يروي (سويدية) في شهادته جزءً من هذه المأساة فيقول: (رأيت زملاء لي في الجيش الجزائري يحرقون صبيًا عمره 15 سنة بسكب النفط عليه وإحراقه حيا حتى الموت , ورأيت جنودًا يتنكرون في زي إسلاميين ويطلقون لحاهم ويرتدون الجلاليب ثم يقومون بذبح المدنيين داخل بيوتهم , و تقوم بعدها القيادة العسكرية بإعلان بيانًا يفيد بأن الإرهابيين داهموا بعض القرى وقتلوا العشرات من رجالها وألقوا بجثثهم في الطريق  . 
كما رأيت ضباطًا يقتلون بدم بارد متهمين بسطاء , وضباطًا يعذبون - حتى الموت- المعتقلين الإسلاميين، والكثير من الأشياء، ما يكفي لإقناعي بتحطيم جدار الصمت ) .
وقد دفع  (سويدية)  ثمن غاليا بإعتراضه على هذه الحرب القذرة , حيث فوجئ بتوقيفه بتهمة السرقة ، و قضى في الزنزانة أربع سنوات تعرض في أثنائها للتعذيب , و محاولة اغتياله ,  وعندما أطلق سراحه في عام 1999 م قرر النجاة بنفسه والهروب من معسكر الاعتقال الكبير ( جزائر الجنرالات ) , فكان قرار لجوؤه إلى فرنسا , ومن ثم  فضح هؤلاء الجنرالات في كتاب مذكراته ( الحرب القذرة ) .

إنه مثلث الرعب : ( القوة والسلطة والفساد ) .. جنرالات جيش فاسدون ..يملكون القوة ..ويتمتعون بسلطة مطلقة ..وإمتيازات  لا حدود لها ..بلا رقيب أو حسيب ..ثم يبدو لهم ما يعكر صفوهم ..وينغص عيشهم ..إنها الديمقراطية ..حكم الشعب وإختياره لمن يمثله .. حيث يأتي من ينازعهم سلطاتهم ..ويحد من إمتيازاتهم .. ويقف بوجه فسادهم ..حينها  يصبح الدفاع عن السلطة غاية يصغر أمامها كل شئ ..بما فيها الإنسان ..وحتى الأوطان ..

فما أشبه الليلة بالبارحة ..

[email protected]

https://www.facebook.com/shireenhaytham