أحمد زهران :

 في عام 1989 انهارت ديكتاتوريات شرق أوروبا، ولم تنفعها حينئذ قوات ولا قوانين، ولم يجد معها سلاح ولا رصاص؛ فالكلمة كانت للشعب لا للحكومات، والإرادة كانت للجماهير لا للقوات.

 ومن وجهة نظري فإن الديكتاتورية العسكرية في مصر الآن في طريقها للانهيار، والدليل على ذلك هذه الحشود الكثيرة التي تبلغ عشرات الآلاف في بعض المحافظات لتصل إلى ملايين في محافظات أخرى، والتي ظلت طوال الأشهر الأربعة الماضية تخرج متحدية الحظر المفروض آنذاك؛ وظلت تخرج رغم سقوط آلاف الشهداء في رابعة والنهضة ورمسيس، ويوم السادس من أكتوبر الماضي وغيرها؛ لأن لديها يقين أن هذا النظام الانقلابي هش كورق المحارم، كما أن لدى الانقلابيين يقين أن بعض جنودهم على متن الدبابات والمدرعات ممزقون بين أوامرهم وبين شرعية مطالب المتظاهرين، وهذه هي المشاعر ذاتها التي سادت في أوروبا الشرقية عام 1989.

كثرة التظاهرات وقوتها وانتشارها وتصاعدها في كل ربوع مصر هو مؤشر على قرب سقوط الانقلابيين، ولن نلبث إلا قليلاً حتى نشاهد جميع قادة هذا الانقلاب وقد جُرِّدوا من كل مسئولية اغتصبوها في مواجهة حشود المصريين الساخطة، ولسان حالهم يقول: لا طاقة لنا اليوم بالشعب وثورته!

 ماذا قدم الانقلابيون لمصر غير الخزي والعار؟! وماذا جلبوا لها سوى الذل والدمار؟! أرادوا أن يعترف العالم بهم فلم يستجب لهم غير الضعفاء والخونة والعملاء  والمتسلطين أمثالهم؛ خرجوا يتسولون من بعض دول الخليج فما ازدادت مصر إلا فقرًا، ذهبوا يبتغون العزة والمنعة لدى أمريكا وإسرائيل وروسيا فما ازدادوا إلا ذلاً، السياحة توقفت والسياح هربوا، الاحتياطي النقدي كل يوم في تناقص مستمر، الأسعار زادت أضعافًا مضاعفة، أزمات البوتاجاز خنقت أفراد الشعب وخاصة البسطاء والمعوزين.

 قالوا نتودد إلى الشعب بقانون الحد الأقصى للأجور، فخيب الله مسعاهم بغبائهم (والغباء جند من جنود ربك، "وما يعلم جنود ربك إلا هو")، فراحوا يستثنون هيئات الشرطة والقضاء والعسكريين ورؤساء البنوك وقادة المصالح الحكومية حتى استثنوا كل من يجب أن يطبق عليه القانون، ولا عزاء لـ (المغفلين).

 أرادوا أن يؤمنوا أنفسهم من الملاحقات ومن المحاكمات، فشرعوا مادة لتحصين المؤسسات في الدستور ثم تحصين الوزراء بما يعطي حصانة للفساد، وهو ما سيبرر مستقبلاً النهب والسلب والقتل تحت مظلة "حسن النية"، وبالتالي فلا تطالهم محاكمات، ولا يقعون تحت طائلة القانون؛ لأن جرائمهم كانت كلها "بحسن نية"!!

إن قوة الحراك الشعبي الضاغط لكسر الانقلاب، والتي امتدت في جميع أرجاء مصر، بل وخارجها، أجبرت السيسي وغيره على أن يبحثوا عن التحصين ويضعوه في حساباتهم، ومن دون شك فإن مجرد التفكير في إصدار قانون بهذا الشكل، دليل واضح على تخوف قادة الانقلاب، من سقوط النظام الحالي، وبالتالي الخشية من المحاكمة على جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب المصري.

  يقول عبد الرحمن الكواكبي: "إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه؛ لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن توهم التخاذل فقط".

 راحوا يفكرون كيف يتوددون إلى الشعب الذي قهروه وسحلوه وقتلوه، فقالوا: نحتفل بذكرى شهداء "محمد محمود" الذين قتلناهم!! فيصدق البلهاء أنهم برءاء، وتخرج البيانات من الشرطة تأسى وتحزن وتتأسف على شهداء "محمد محمود"، وهكذا يبكي القاتل بدموع التماسيح على من قتله، ويعلنون تضامنهم مع أهاليهم، ويدعون "المواطنين الشرفاء" بالطبع للاحتشاد والاحتفال والبكاء على شهداء "محمد محمود"!

 إنهم يمارسون خدعة دموع التماسيح؛ ليخدعوا بها البسطاء من الناس، وليظهروا أمامهم بمظهر المعتَدَى والمُفتَرَى عليهم، والمعروف أن التماسيح من الحيوانات التي لا يُستثار دمعها أبدًا، وهذه الظاهرة حيَّرت العلماء والباحثين، مع أن التشريح أثبت وجود غدد دمعية متكاملة لديها.

وهناك تفسيرات أخرى بأن ما نراه على عيونها ونظنه دموعًا ما هي إلا بقايا الماء الذي تعيش فيه، أو هي فائض الأملاح التي ترسبت إلى جسمه لدى ابتلاعه فريسته مع بعض الماء، فهي إذًا ليست مظهرًا لعطف أو شفقة، وإنما هي دموع خدَّاعة زائفة، ولذا يُضرب بها المثل في النفاق والرياء والدهاء.

قال ابن المعتز:

 ثم بكوا من بعده وناحوا              كذبًا كما يفعل التمساح

 إن مطلب الثوار اليوم أن يرحل هذا النظام الانقلابي كله، وأن يحاكم قادته عن كل روح أزهقوها، وعن كل قطرة دم أراقوها، وعن كل امرأة فجعوها، وعن كل أهل بيت روعوه، وعن كل طفل أخافوه، وعن كل شيء جميل في بلدنا شوهوه، وسيبلغون ما أرادوا عاجلاً أو آجلاً.

 ـــــــــــــــ

 كاتب صحفي