د. جمال عبد الستار :
لم تكن الهجرة فرارا من الإيذأء ،أو تضجرا من التضييق والتعذيب ، ولم تكن كذلك سعياً لحياة راغدة ، أولقمة سائغة، أو معيشة أترف أو دخل أوفر، إنما كانت انتقالا فكرًيا، وبحثاً عن أرض خصبة لغرس الإيمان ، وانطلاقة الإإسلام ، كما كانت تحولاً من بناء الأفراد إلى بناء المجتمع الرائد والأمة الناهضة. فالهجرة كانت فتحاً ونصراً، وإننا في أيامنا هذه لفي حاجة ماسة إلى استلهام منهجية النصر التى قامت عليها الهجرة المباركة، لنعرف أين نحن وفي أي طريق نسير، فالهجرة لم تكن مجرد قصص يحكى، أو تاريخ يتلى، أو قصص لتسلية والاطلاع، وإنما كانت منهجية نصر ثابتة، ملهمة لكل العصور والأزمان وإن من قواعد منهجية الهجرة في النصر مايلي:
1 ـ التضحية طريق الريادة أدرك الصحب الكرام أن الإسلام العظيم يستحق التضحية بكل غالٍ وثمين، فهانت عليهم نفوسهم رخيصة في سبيل الله، وأموالهم فداءً لدين الله، وأولادهم جنودا لله، إذا ناداهم الإسلام يوما أجابوه: لبيك إسلام البطولة كلنا نفدي الحمى لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما لبيك إن عطش اللـواء سكب الشباب له الدماء. فعلَموا الأمم الباحثة عن النصر أن الموت في سبيل الله ليس مصاباً يستحق العزاء، وأن البذل في سبيل الله ليس بلاءً يستحق الرثاء وانما هذه التضحيات من أبواب الشرف المستحق للسعادة والاحتفاء. وأن الأمة التى لاتقدم أبناءها في ساحة الشرف كراماً، ستفقدهم حتماً فس ساحة الخسة والدناءة لئاما.
2ـ التخطيط واجب شرعي منحنا الله إمكانات وأوجب علينا الإفادة منها، واستخدامها في إعمار الأرض بدين الله تعالى، وأن التقصير في الأخذ بالأسباب المتاحة معصية لمن أودعها في جنباتنا وفضلنا بها على كثير من خلقه ومن هنا أدرك الأصحاب أن التخطيط والأخذ بالاسباب ليس خياراً لمن اراد النجاح، ولا احتمالاً لمن أراد الفلاح، وإنما هو طريق لابد من سلوكه، ومرتقى لابد من عروجه، فالله يعاقب المقصرين المفرطين كما يعاقب المعتدين الآثمين. وكما قال أبو تمام: ولم أرى في عيوب الناس عيبا .. كنقص القادرين على التمام
3 ـ السعي للنصر لايسثني أحدا. لم تكن الهجرة عملاً فردياً، أو بطولة شخصية، وإنما كانت لوحة فنية راقية، لكيفية استثمار الإمكانات المتعددة والطاقات المتغيرة والشرائح المتناثرة، ففيها بذل الرجال والنساء، وشاركت المرأة في صناعة المشهد أيما مشاركة ،وساهم الشباب فكان لهم أوفر الحظ والنصيب، مع حكمة الشيوخ وخبرة الأيام، وبراعة القائد وتوكله على الرحمن. ومن هنا أدركت الأمة أن نهضتها وريادتها يحتاج إلى تكاتف كل القوى، والإفادة من كل الطاقات، واستثمار كل الإمكانات، وليس حكراً على أحد، أو خاصاً بمجموعة أوطائفة، بل لابد من استنهاض كل الهمم، دون إبعاد أو إقصاء أو اصطفاء.
4 ـ الأمل بعد العمل. مع الأخذ بالأسباب المتاحة فإن النصر معقود بأمر مُهديه ،وإذن مُسديه ، وفضل مُؤتيه ، لذا فالنصر عقيدة راسخة في نفوس المؤمنين وإن ذهبت أسبابهم، وقلت حيلتهم، وتكالب عليهم أرازل الخلق وأحزاب الشيطان، فإن منطقهم الدائم: كلا إن معي ربي سيهدين. فهم بعد بذل الجهد المتاح ينسون مابذلوه من أسباب، ويتعلقون بمن خلق الأسباب، طالبين حبال إمداده، ووفود جنوده، وخيل نصرة ولسان حالهم ينادي في كل خائف ،ويطمئن كل قلق، ويثبت كل مأزوم: (لاتحزن إن الله معنا) (لاتحزن إن الله معنا)
5ـ الثقة سفينة الأمان: لا يمكن للنصر أن يتحقق إلا إذا استقرت أمواج النفوس، وتوقفت عواصف الشكوك، واطمانت القلوب لوعد ربها، وسكن الفؤاد بذكره، واستوى على جودي تدبيره، وتشرب بالثقة في لطفه وحسن تقديره. (ماظنك باثنين الله ثالثهما)
6 ـ بعد ارادة الافصاء كان الارتقاء أراد حلف الشيطان وحزبة للدعوة ورائدها حبساً خلف القضبان، أونفياً في القفارى والبلدان، أو قتلاً ووأدا تحت الثرى بغية النسيان ،ولكن نسي القوم أن هذا الكون ليس فيه الناس فحسب ولكن هناك رب الناس يحصي ويكتب، يقدر ويدبر، فلا راد لأمره ولامبدل لحكمه، أراد لدعوته البقاء والارتقاء فطمئن قلوب عبادة بقوله : يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ .
7 ـ بعد التخفي والحذر طلع البدر علينا بعد الحذر والقلق كان الأمن والفرج، بعد التخفي والاحتياط كان الظهور والاغتباط، بعد التربص و المطاردة كانت الرفعة والمناصرة، بعد التشوية والإرجاف كانت البراءة والإتحاف، بعد أن همس الصديق: لونظر أحدهم تحت قدميه لرآنا كانت طلع البدر علينا من ثنيات الوداع هذا هو الطريق وهذه منهجيته ومعالمه، فأبشروا بالخير، واستمسكوا بنور الله الذي آتاكم، وثقوا فيمن على طريق الحق أوقفكم.