المستشار عماد أبو هاشم : 

لقد خَلُصت من متابعتى للمُتغيرات السياسية التى تشكل الواقع المصرى المعاصر إلى الكثير من النظريات التى لا نظير لها فى علم السياسة منذ نشأته ، ومن أكثر النظريات التى تفتق عنها ما تمر به البلاد من أحداثٍ ، وتفرض نفسها على الواقع السياسى ما يمكن أن نسميه بنظرية " الإستهبال ".
ومن الجدير بالذكر أن تلك النظرية ذاتُ منشأٍ قضائىٍّ ، تبلور فحواها حين دعا رئيس نادى القضاة جميع من يجلس على منصة الحكم إلى إهدار ما يصدر عن مجلس الشعب من قوانينَ ، وقد بلغ الإستهبال أقصى مداه حين حاول مجلس إدارة النادى - على غير الحقيقة - تسويقَ فكرة أن ما يصدر عنه من توصياتٍ يتسم بصفة الإلزام للقضاة ، وأنهم لا يستطيعون مخالفته ، وكأن نادى القضاة هو من يملى الأحكام على القضاة ، ويحدد أىَّ قانونٍ يطبقه القاضى فى حكمه ، وأىَّ قانونٍ يَضْرِب به عرض الحائط ، وهو ما يعنى - فى نظرهم - أنَّ القضاء تحت وصاية نادى القضاة ، ومع ذلك يدَّعون أنَّ النظام الشرعى للبلاد - الذى قوَّضت أحكام القضاء أركانه دون أن يسعى من قريبٍ أو بعيدٍ إلى التدخل فى الشأن القضائى ، بل إنه احترم كل ما صدر من أحكامٍ ، وبادر إلى تنفيذها - ينال من هيبة القضاء واستقلاله ، إن نادى القضاة يدعو إلى تفعيل دولة القانون ، فى الوقت الذى يعمد فيه إلى الإطاحة بالقانون ودولته ، وينادى بالحفاظ على استقلال القضاء ، وهو من يتدخل فى شئون العدالة طالبًا إلى القضاةِ بل آمرًا لهم - بغير الحق - أن يمتنعوا عن تنفيذ ما يصدر من قوانين الدولة ، ويُظهر احترامَه مبدأ الفصل بين السلطات ، فى حين يفرض وصايته على السلطة التشريعية ، ويمنع تنفيذَ ما يصدر عنها من قوانين ، أو يقف حجر عثرةٍ للحيلولة دون أن يُصدر ممثلوا الشعبِ ما يحقق المصلحة العامة من القوانين ، مثلما حدث عندما شن هجومًا - لا مبرر له - على مجلس الشورى المخول دستوريًا بإصدار القوانين بعد حل مجلس الشعب ؛ ليمنعَ إصدار قانون السلطة القضائية الجديد .
ومن مظاهر سياسة الإستهبال التى - غالِبًا - ما ستنتقل إلى كل دول العالم المتخلف بعد أن استكملت كل أركانها ، ما قام به تَجَمهرٌ من القضاة وأعضاء النيابة العامة - بتحريضٍ من نادى القضاة - من حصارٍ لمكتب النائب العام بالأسلحة النارية لإجباره على الإستقالة ، ومن إضرابٍ عن العمل بدعوة من رئيس النادى ، ومر ذلك دون أن يُحَاسبَ قاضٍ أوعضوٌ للنيابة ، أو يُخصم من راتبه جنيهٌ واحدٌ ، وتُرك نادى القضاة ينظم مؤتمراتٍ يتناول فيها مسائل الحكم وقضايا السياسة على نحوٍ غير مسبوقٍ ، ويوجه السباب للحكومة ورئيس الدولة ، بل إن الأمر قد وصل إلى الإستعانة بالدول الأجنبية للتدخل فى شئون مصر ، والمشاركةِ فى تظاهُراتِ 30 يونيه - وهو ما يعد خرقًا لقانون العقوبات من ناحيةٍ ، ولقانون السلطة القضائية الذى يحظر على القضاةِ الإشتغال بالسياسة من ناحيةٍ أخرى - ولم يُحَاسب أحدٌ قط ، ثم يدعى نادى القضاة بعد ذلك أن القضاة كانوا قبل الإنقلاب يتعرضون لانتهاكاتٍ وضغوطٍ من قبل الدولة ، أليس اتهامُ الجانى للمجنىِّ عليهِ أنه اقترف فِعلتَهُ المُؤَثَّمة نوعًا من الإستهبال ؟
وأخيرًا فإن التصريحات التى سيقت على لسان وكيل نادى القضاة ، أن وفدًا من القضاة شكله النادى للمشاركة فى الإجتماع السنوى للجمعية العامة للاتحاد الدولى للقضاة ، الذى سينعقد الأسبوع القادم ، سيشرح " كيف أن الشعب ثار دفاعًا عن استقلال القضاء ، للتأكيد على أن ما حدث فى 30 يونيو هو ثورةٌ تمثل الإرادة الشعبية ، والقضاة كانوا فى طليعة هذه الثورة والمحرك الرئيسى لها ، وهو ما يؤكد أنها ثورةٌ شعبيةٌ ، وأن الوفد سيوضح لقضاة العالم - خلال مشاركته فى اجتماع الاتحاد الدولى للقضاة - أن ما يتم اتخاذًه من إجراءات فى مصر تنفيذا للإرادة الشعبية وإعمالًا للديمقراطية ودولة القانون ، باعتبار أن ذلك دورٌ وطنىٌّ لقضاة مصر. " أليست تلك التصريحاتِ اعترافًا صريحًا بأن قضاةَ الزند اشتغلوا بالسياسة لدرجة أنهم كانوا المحرك الرئيسى لجريمة قلب نظام الحكم حنثًا بالفسم الذى أقسموه أن يحترموا الدستور والقانون ؟ كما أن الدفاع عن الإنقلاب والحديثَ عنه كأنه ثورةٌ شعبيةٌ فى محفلٍ أعد لمناقشة مايهم الساحة القضائية فى دول العالم من مشكلاتٍ سعيًا لإيجاد حلولٍ لها ، أليس ذلك إشتغالًا بالسياسةِ ؟ وفى الوقت ذاته يُحاسب قضاة تيار الإستقلال وأعضاء حركة قضاة من أجل مصر - بإيعاذٍ من الزند والإنقلابيين - أنهم أبروا بقسمهم ، وكانوا ظهيرٌا للشرعية الدستورية التى أقسموا على احترامها ، والتى تعد عماد العمل القضائى الذين يسعون لأدائه على وجهه الصحيح .
إننى أحذر المجتمع الدولى من هذا الوفد ، أن يسمع شيئًا من كلامه ، وأناشد الإتحادَ الدولى للقضاء أن يسأل هذا الوفد عن المذابح القضائية التى أُعِدَّت للقضاةِ من تيار الإستقلال وحركة قضاة من أجل مصر؛ تصفيةً لحساباتٍ سياسيةٍ بينهم وبين الزند والإنقلابيين ؛ لأنهم لم يخونوا ضمائرهم فى وصف ما حدث فى الثالث من يوليو من أنه انقلابٌ مجرَّمٌ قانونًا .