المستشار/ عماد ابو هاشم*
الذى يحدث فى مصر منذ انقلاب الثالث من يوليو- وفقًا للمادتين السادسة والسابعة من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية - يشكل جريمة الإبادة الجماعية كما يشكل جريمةً من الجرائم ضد الإنسانية ،وهاتان الجريمتان تدخلأن فى اختصاصها ، وتتمثل جريمة الإبادة الجماعية فى ارتكاب أفعالٍ للقضاء على مجموعةٍ وطنيةٍ أوعرقيةٍ أو دينيةٍ وإهلاكها كليًا أو جزئيًا عن طريق القتلَ مثلًا أوإيقاع أضرارٍ جسديةٍ أوعقليةٍ جسيمةٍ لأعضاء المجموعة أو بأى طريقةٍ كانت ، بينما تتمثل الجرائم ضد الإنسانية فى ارتكاب جرائم القتل والإبادة الجماعية ضد أى مجموعةٍ من السكان المحليين بشكلٍ منهجىٍ واسع النطاق بقصد القضاء عليها ، وبعد دخول النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ فى أول يوليو 2002 ، وانضمام مصر إليه ، فإن الدولة المصرية تكون بذلك قد أصبحت من الناحية القانونية مسئولةً على الصعيد الدولى بتنفيذ أحكامه ، ووفقًا للمادتين 86 ،93 من النظام الأساسى للمحكمة ، فإن مصر تلتزم بالتعاون مع المحكمة بطريقةٍ كاملة بخصوص التحقيقات التى تجريها والمعاقبة على الجرائم التى تدخل فى إطار اختصاصها ، وتلتزم تستجيب لأى طلباتٍ خاصة بالقبض على شخصٍ ما أو تسليمه ، ومن الجدير بالذكر أنه وفقًا للمادة 15 فإن للمدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية - من تلقاء نفسه – أن يفتح تحقيقًا بعد استئذان دائرة الشئون الخاصة بما قبل المحاكمة ، إذا قامت لديه دلائل جدية على ارتكاب شخصٍ إحدى الجرائم الداخلة فى اختصاص المحكمة وفقًا لما يرد إليه من بلاغاتٍ ومعلوماتٍ فى شأن مايقع من تلك الجرائم ، ودون حاجةٍ للإحالة من إحدى الدول الأطراف أو من مجلس الأمن أو من دولةٍ غير طرف ، وله تكرار الطلب - إن لم تأذن له الدائرة المذكورة - فى حالة ظهور وقائع أو أدلة جديدة ، وله وفقًا لما ورد بالمادة 54 - بعد استئذان الدائرة سالفة البيان – اجراء التحقيق على أرض الدولة الطرف ، واصدار أوامر القبض .
وهو ما يفتح الباب على مصراعية أمام ذوى الشأن - من المصابين وأسرضحايا المذابح والمحارق التى اقامها الإنقلابيون لمؤيدى الرئيس الشرعى للبلاد من جماعة الإخوان المسلمين والقوى الشعبية الأخرى المتحالفة معها المتظاهرين سلميًا للمطالبة بعودة الشرعية الدستورية - أن يتقدموا ببلاغاتهم ضد الإنقلابيين رأسًا إلى المحكمة الجنائية الدولية ، مما يستدعى حصرهم لعمل التوكيلات الازمة لفريقٍ دولىٍ من المحامين يتم الإتفاق معه على تولى هذا الأمر ، وجمع وتوثيق الأدلة وحصر الشهود ، لتقديم ملف كاملٍ بمستندات الإدانة إلى المحكمة عما وقع من جرائم ، وإحصاء ما يستجد من جرائم لإبلاغ المحكمة بها أولًا بأول ، والوقوف على الأدلة على ارتكابها قبل قيام السلطات بطمسها ، وتوجيه الدعوة للمدعى العام لإجراء التحقيق على أرض الدولة المصرية لمعاينة الجرائم والأدلة على اقترافها وسماع الشهود عليها والذين يقدرون بالآلاف ، والوقوف علة ما تحوه مشرحة زينهم من ًعددٍ يربو على ألف جثةٍ متفحمةٍ - يحفظ معظمها فى ثلاجاتٍ خاصة لعدم اتساع ثلاجات المشرحة -لاستيعابها لم يصرح بدفنها لعدم المقدرة على تحديد هويتها .
أما عن المسئولية عن ارتكاب هذه الجرائم ، فإن المادة 27 من النظام الأساسى للمجكمة الجنائية الدولية لا تجعل الصفة الرسمية للشخص -كرئيسسٍ أو مسئولٍ فى الدولة – من العقاب ، ولا تجعل من ذلك سببٍا لتخفيف العقوبة التى توقع عليه ، ومن ثم فإت تمتع الشخص بالحصانة خارجيًا أو داخليًا لا يؤثر فى مسئوليته الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية ، كما أن المادة 28 تقرر أن ارتكاب الشخص للفعل المكون لإحدى الجرائم الداخلة فى اختصاص المحكمة لا يعفى رئيسه من المسئولية الجنائية أمام المحكمة إذا علم أو قامت لديه دلائل معقولة أن ذلك الشخص يستعد لارتكاب الجريمة أو ارتكبها دون أن يتخذ الرئيس الإجراءات اللازمة لمنع ذلك الفعل او المعاقبة عليه ، وقد أوردت المادة 33 ان الملتزم قانونًا بتنفيذ الأوامر لا يعفى من المسئولية أمام المحكمة إذا كان يعلم أن تلك الأوامر غير مشروعة ، وكانت الأوامر غير مشروعة بطريق واضحة ، وافتض النص أن الأوامر الصادرة بالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية غير مشروعة بطريقة واضحة أى أنها افترضت العلم بأن الأوامر الصادرة بارتكاب هاتين الجريمتين غير مشروع يرتب المسئولية الجنائة لدى المحكمة ، فلا يجوز الدفع بانتفائها تأسيسًا على صدور أوامر من سلظةٍ اعلى إذ لا طاعة لمخلوق فى معصية حقوق الإنسان .
الأمر الذى لا يمكن معه لوزيرى الدفاع والداخلية أن يتنصلأ من مسئوليتهما الجنائية عما وقع من جرائم بعد انقلاب يوليو استنادًا إلى الزعم بتفويض الشعب لهما ، لأنه - كما اسلفنا القول – لا توجد سلطةٌ تلزم الشخص بارتكاب مثل ما ارتكب من جرائم ولا حتى سلطة الشعب فضلًا عن هذا الزعم من مرسل القول الذى لا دليل عليه ، كما أنه غير منضبطٍ على النحو الذى ينهض كدليلٍ على تحقق أغلبيةٍ فى التفويض باقتراف تلك الجرائم ، ومن ناحية أخرى فإن ما يسمى بالرئيس المؤقت ، وهو – من حيث الشكل – صاحب السلطة الفعلية لا يستطيع التنصل من مسئوليته بالدفع بأنه لم يصدر الأوامر إلى وزيرى الدفاع والداخلية بارتكابها لأنه علم ، وقامت لديه دلائل معقولة أنهما يستعدان لارتكابها هذه الدلائل مستمدةٍ من التمثيلية الدرامية التى قاما بها طلبًا للتفويض من الشعب ـ بل إنه أعلن مباركته وموافقته على هذا الطرح ، وهو بذلك لم يتخذ الإجراءات اللازمة لمنع تلك الجرائم أو المعاقبة عليها ، وأخيرًا فإن النوط بهم تنفيذ الأوامر فقد افترض النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية علمهم بعدم مشروعية تلك القرارات ورتب مسئوليتهم الجنائية عما يسفر عنه تنفيذها من جرائم .
إن ملاحقة القضاة الرافضين للإنقلاب بالتحقبق معهم من قبل الجهات المعنية بوزارة العدل ، اوبانتداب قضاة للتحقيق معهم جزاء مطالبتهم بعودة الشرعية الدستورية التى هى صميم عمل القاضى وضالته المنشودة التى أقسم على احترامها والمحافظة عليها كمسوغٍ لتعيينه فى القضاء ، يكشف - فى المقام الأول - عن عوارٍ تشريعى فى قانون السلطة القضائية القائم الذى يتيح لوزير العدل وللتفتيش القضائى التابع له ولمجلس القضاء الأعلى ذاته سلطة مطلقةً تحكمية لملاحقة القضاة ، ليس أسسٍ موضوعية ولكن لتصفية حساباتٍ سياسيةٍ بحتة ، بتطبيق القاعدة القانونية تطبيقًا انتقائيًا فقط على المخالفين من القضاة لهم فى الرأى ، وأقول أليس حضور رئيس مجلس القضاء الأعلى ومشاركته بشخصه فى الإنقلاب على الشرعية اشتغالًا بالسياسة ، أليس استعداء رئيس نادى القضاة للقوة الأجنبية لفرض وصايتها على الشئون الداخلية للدولة ، ومطالبته القضاة بالإمتناع عن تطبيق ما يصدره مجلس الشعب المقضى بحله من قوانين ، ودعوته القضاة إلى المشاركة فى الظاهرات دعمًا للإنقلاب ، واستجابة عددٍ من القضاة ونزولهم للمشاركة فى تلك التظاهرات - اشتغالًا بالسياسة ، إن قانون السلطة القضائية لم يضع تعريفًا لمصطلح الإشتغال بالسياسة ، حيث يتوسعون فيه كثيرًا إذا كان الإتهام بالإشتغال بالسياسة موجهًا إلى قضاة من أجل مصر، ويضيقون منه إذا أشارت أصابع الإتهام إلى ممن يسبغون عليه حمايتهم إلى حد تجميده ، ومن ناحيةٍ أخرى فإن ما يتخذ من إجراءاتٍ ضد القضاة الذين شقوا الصف ليقفوا فى وجه الباظل تتسم بسرعة البرق الخاطف ، فى حين تسير الإجراءات فى القضايا التى اتهم فيها المستشار الزند والمستشار عبد المجيد محمود بسرعة السلحفاة ، وهو ما يؤكد انهيار السلطة القضائية فى مصر وتسخيرها لخدمة الإنفلاب وتكريس عملها لتصفية الحسابات السياسية قبل معارضى الإنقلاب فى هجومٍ عنيف لم يفلت منه حتى القضاة أنفسهم ، فلم تقف حصانتهم حائلًا دون التنكيل بهم ، فى حين تسبغ الحماية على من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء فى مذابح ومحارق لا تقل وحشيةً عن محارق الهولوكست ، وبذلك ينعقد الإختصاص الأصيل للمحكمة الجنائية الدولية اعمالًا لنص المادة17 من نظامها الأساسى الذى يقضى بانعقاد اختصاصها فى حالة انهيار النظام القضائى فى الدولة ، أو عند رفض أو فشل القضاء الوطنى فى ملاحقة مرتكبى الجرائم التى تدخل فى اختصاص المحكمة.
__________
*رئيس محكمة المنصورة وأحد قيادات تيار الاستقلال القضائي في مصر