د. ميمون نكاز*
"في هذه الأنفاس الزمنية الصعبة الحرجة التي يصهر فيها شعب مصر صهرا شديدا، بعد الانقلاب الشنيع، وما ترتب عنه من آثار ومآسي ودماء مسفوحة، وما تلى ذلك وسيتلوه من مساعي ودعوم دولية وإقليمية لإنجاح الانقلاب واستعادة الهيمنة والتحكم في مقدرات الدولة المجتمع وإعادة إنتاج النظام الاستئثاري والاستبدادي القديم، أعظ المصريين بواحدة لا أرى لهم مخرجا في غيرها: الصبر والمصابرة والمرابطة في ساحات وميادين الرفض المطلق لهذا الانتهاك السافر الفظيع لحرمات الشعب، واستدامة الاحتجاج الشعبي الشديد في القاهرة وفي محافظات مصر كلها مع توسيع الكتلة الشعبية والجماهيرية الاحتجاجية في العاصمة وتحمل ضرائب وتكاليف الحرية التي ستكون ــ قطعا ويقينا وجزما ــ كبيرة وعظيمة وثقيلة وشديدة ومؤلمة، وأعتقد أن كل الخيارات الأخرى التي تنطلق من منطلق الإقرار والاعتراف بالأمر الواقع وتدعوا إلى المصالحة الوطنية واستئناف المسار الديمقراطي من اجل احتواء الفتنة وطي الأزمة على أرضية الواقع الجديد المفروض هي خيارات تكريسية للحالة الانقلابية تفوت على الشعب المصري فرصته التاريخية في هذه اللحظة تحديدا للقطع بقومة واتنفاضة شعبية شاملة مستمرة وبنفس نضالي طويل مع هذه الرذيلة والسنة السيئة في عالمنا العربي ( الانقلابات العسكرية والاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والإداري والاجتماعي)، وأدعوا إلى الاحتراز من خبراء وعلماء اللسان ــ كما جاء في الحديث ــ الذين يدفعون باتجاه التطبيع مع الحالة الانقلابية بدعوى الحرص على المصلحة الوطنية والمحافظة على الأمن القومي المصر.
وأقول لهؤلاء اللاحنين في القول: لا طريق للمحافظة على المصلحة الوطنية ولا سبيل لصيانة الأمن القومي ــ حقيقة وصدقا ــ إلا بالمحافظة على كرامة الشعوب ومستحقاتها، ومهما اعتقد الانقلابيون والاستبداديون والفاسدون ومن يمالؤهم من الانتهازيين والنفعيين أنهم قد انتصروا وغلبوا وقهروا خصومهم، فإن سنن الله القدرية في الظالمين والمستضعفين ماضية قاضية نافذة لا تتبدل، (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)، وإني لعلى يقين أن الصراط المستقيم الآمن من حيث المآلات المستقبلية لحفظ حقوق الشعب المصري ومصالحه في هذا المنعطف التاريخي الحساس والثقيل بنتائجه وآثاره ومآلاته على المنطقة والعالم بأسره ينحصر في الإرادة الإنسانية الحرة الطليقة من كل مصادرة أو تقييد أو إغراء أو تضليل والاحترام الصادق والحقيقي والشامل للإرادة الشعبية التي تشخصها وتجسدها المعادلات والاستحقاقات السياسية المعبر عنها من خلال العرف الآلي الذي تشايع عليها الناس ( الديمقراطية).
ما يجري في مصر هو انقلاب دولي إقليمي عسكري داخلي على الشرعية الدستورية والهوية الحضارية للإنسان المصري ،سخرت فيه كل الإمكانات المالية والآليات الإعلامية الابليسية والتشييع الشعبي لعباد السلطة ونهاب المال العام ولغيرهم من عموم الناس ممن تعددت دوافعهم وأسباب انخراطهم في هذه المؤامرة الانقلابية من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وقد بدأت خطط تنجيز هذه المؤامرة بعد سقوط النظام مباشرة ، ولقد عملوا خلال الفترة الماضية كلها على تزمين المشكلات واستجماع الظروف والشروط النفسية والذهنية والدعائية والميدانية لذلك، ثم أبرموا أمرهم وفعلوا فعلتهم الشنيعة، وأجرموا جرمهم العظيم.
إن قومة الشعب العامة وانتفاضته على الانقلابيين ورفضه المطلق لكل أشكال القبول والتطبيع مع الحالة الانقلابية والثبات على طريق الحق والتحرر الطويلين هو الخيار الاستراتيجي الوحيد لاستعادة الشرعية والشروع في مسيرة التأسيس والبناء لدولة الحق والعدل والكرامة، وكل محتفات الخيارات الأخرى التي تأتي في سياقات هذا التوجه الاستراتيجي كخيار المصالحة والتفاوض السياسي والحوار الوطني والتوافق بين فرقاء وشركاء الوطن ينبغي إن يؤمها ويحكمها هذا الثابت الاستراتجي، ثابت الرفض المطلق للحالة الانقلابية وآثارها التي نجمت عنها, وتجدر الإشارة إلى أن استصحاب الحالة الروحية والنفسية الثورية للشعب والاعتماد على الإمكانات والقدرات الذاتية والقطع ــ كما ألححنا ونلح دائما ــ مع كل أشكال العنف ، والحيطة والحذر من الاستدراج إليها، وتحمل مخططات وابتلاءات الاتهام بها والصبر المضاعف على العنف الشرس الذي سيضرب ويسلط على الثائرين الأحرار، هي الأعمدة الفقرية لهذا الخيار الاستراتيجي، في الحالة المصرية الآن لا أرى خيارا للتحرر كلية من البنيتين التحتية والفوقية للنظام السابق إلا هذا الخيار...
عـــظـــة واحدة أراها قاطعة لدابر الانقلابيين والاستبداديين والظالمين والمفسدين في الأرض...
والـــســــــــــــلام".
__________
* مفكر مغربي

