د. ممدوح المنير
تسببت زيارة الرئيس مرسى للبرازيل جدلا كبيرا فى الساحة المصرية، وارتبط هذا الجدل بالشكل أكثر منه بالمضمون فى ظل المحاولات المستمرة من الإعلام المحسوب فى غالبه على النظام السابق لتشويه الرئيس و حكومته على أمل ان يؤدى ذلك إلى فشل التجربة الإسلامية فى مهدها ، هذا مع العلم أن بعض وسائل الإعلام حاولت التركيز على تحليل مضامين و نتائج الزيارة بشكل جيد ، لكنها القلة للأسف.
الدلالات الشكلية للزيارة
نحاول من جانبنا تسليط الضوء على الزيارة من خلال شكلا وموضوعا، لفهم ما وراء الصورة و الخبر.
لفت إنتباه الكثيرين أن مأدبة الغداء خلت من الخمور، رغم أهميتها البالغة فى البروتكولات الغربية كتعبير عن الكرم والإحتفاء بالضيف ، كما ركّز الجميع على رفض الرئيس إحتساء كوب العصير رغم تأكيدات الرئيسة البرازيلية أنه لا يحتوى على الكحول، كما رفض مجاراتها أو الإمساك بيديها اثناء استعراض حرس الشرف حين دعته إلى ذلك، هذه المشاهد رغم أن البعض قد يعدها تافه و ثانوية إلا أنها فى التحليل السياسى و النفسى تعد من الأهمية بمكان فى فهم طبيعة وسلوك الرئيس، وبالتالى التنبؤ بسلوكه تجاه القضايا والمواقف المختلفة.
بطبيعة الحال لسنا هنا فى مجال الحديث عن الجانب الفقى فى المسألة من حيث الحلّ و الحرمة و نحو ذلك ، لكن هذه المشاهد رغم أنها لم تأخذ كلها مجتمعة أكثر من ثوانى معدودة إلا أنه يفهم منها الآتى :
أن الرئيس المصرى يغلب عليه الطابع المحافظ دينيا ، و هو لا يخفى ذلك بل يمارس سلوكه هذا عيانا جهارا أمام الكاميرات و هو ما يعكس قوة فى الشخصية و اعتزاز بالهوية والمرجعية الإسلامية التى ينتمى إليها .
كذلك هذه المشاهد توضح أمر غاية فى الأهمية أن الرئيس الذى لا يقبل على نفسه ارتكاب أخطاء ثانوية من وجهة نظر دينية فى حضرة رئيسة دولة كبرى فى أمريكا الجنوبية ، تؤكد على أنه لا يمكن أن يقبل التنازل عمّا يعتبره ثوابت و بديهيات فى إدارته للدولة ، و أن ما قد يعتبره معارضوه أخطاءا فى قضايا معينه ترجع بالضرورة إمّا إلا سوء تقدير منهم أو منه ، و ليس بحال تنازلا بالمعنى الحرفى للكلمة عن قضايا بديهية و جوهرية ، و هو ما يجعل قراءة هذه المشاهد بعيون إسرائيلية أو أمريكية تقول أن بناءا على هذا السلوك من الرئيس مرسى من الصعب أن نتوقع منه تنازلا أو تراجعا حقيقيا في المواقف تجاه إسرائيل أو أمريكا ، و أن ما يفعله معهما إنما هو من الباب المناورة السياسية وليس تغييرا إستراتيجيا .
الزيارة تحدى لأمريكا
ننتقل من الشكل إلى المضمون ، من رسائل هذه الزيارة التى توجهها مصر إلى أمريكا و حلفائها أن مصر لم تعد تضع البيض فى سلة واحدة و هى السلة الأمريكية ، فتظلّ مصر مرهونة و مسلسلة برضا السيّد الأمريكى ، فحرص مصر على تنوع مصادرها و تعاملاتها، يجعلها تفرض متغيرا جديدا فى العلاقات المصرية الأمريكية قائم على الندية و رفض التبعية .
كما تؤكد ان الرئيس غير معنى أو مهتم بزيارة الولايات المتحدة رغم أنه طاف بأرجاء الكرة الأرضية الأربع حتى وصل إلى حديقتها الخلفية – للولايات المتحدة - وهى أمريكا الجنوبية، و هو ما يعكس كذلك حجم الصراع المكتوم بين الدولتين .
من مضامين الزيارة كذلك هى محاولة الإستفادة من تجربة البرازيل الناجحة فى الإنتقال من دولة يسيطر عليها مثلث الفقر و المرض و الجهل إلى واحدة من أسرع دول العالم نموا وارتفاعا فى معدلات الدخل ، فضلا عن سعى مصر للإنضمام لمنظة البريكس التى تتكون من الخمس دول الأسرع نموا فى العالم و الإستفادة من تجربتهم .
الإستفادة من تجربة البرازيل
و تتلخص التجربة البرازيلية فى النجاح كما ترويها د. باكينام الشرقاوى مساعد الرئيس فى عدة أمور منها
أولا: أهمية الزراعة للتنمية: التركيز على الصناعة والخدمات فقط يعتبر فكراً قديماً، نجحت البرازيل فى زيادة الرقعة الزراعية منذ السبعينيات، جنبًا إلى جنب مع زيادة إنتاجية الفدان، فكانت النتيجة انخفاض تكلفة الغذاء محليًا الى النصف، مما ساهم فى تحسين نوعية الحياة، وهو هدف رئيسى من أهداف التنمية، بل التنمية ذاتها وفق بعض المدارس التنموية مع العلم أن البرازيل تستهلك 80% من إنتاجها الزراعى وتصدر الباقى، فالأولوية للسوق المحلى قبل التصدير.
ثانيا: مصادر الطاقة متنوعة والأهم أن حوالى 50% من الطاقة من مصادر متجددة مثل التى تأتى من المياه أو من قصب السكر أو من الرياح...
ثالثا: عملية التنمية عملية تراكمية تحتاج لوقت فهى ليست سريعة ولكن المهم التأكد من أنها تسير فى الاتجاه الصحيح.
بدأت البرازيل مسيرتها التنموية بموارد محدودة جدًا كانت تنفق على البنية التحتية فى بداية الألفية على مستوى الدولة بالكامل ما تنفقه الآن على مدينة صغيرة (ميزانية 250 مليون دولار) وفق ما قالته رئيسة البرازيل.
رابعا: الوفرة الاقتصادية تمكن من البدء فى برامج اجتماعية طموحة. وقد قامت السياسة الاجتماعية البرازيلية على تنمية الوظائف الحكومية وبرامج الضمان الاجتماعى وزيادة الانتاج الزراعى، خاصة ما يسمى بالزراعة العائلية، حيث تدعم الحكومة المزارع الصغير وتشترى إنتاجه، مع التوسع فى القروض الصغيرة للمزارعين هذا بالإضافة إلى ما يعرف بالحقيبة الأسرية وهى عبارة عن دعم نقدى يقدم للأسر - خاصة الأمهات - اللواتي تلتزمن بتعليم الأبناء وتطعيمهم.
هذه الخبرات تحتاجها مصر بشدة لكى تعالج المشكلات المزمنة التى تمر بها حاليا و هى التركة التى ورثناها عن النظام السابق ، لذلك تعتبر الزيارة وفقا لهذه القراءة السريعة ناجحة شكلا و مضمونا ، و يبقى أن تتحول نتائجها إلى واقع معاش على الأرض.
* كاتب ومحلل سياسي

