د.ياسر على
نقلاً عن الأهرام اليومي :
منذ عدة أيام أعلنت رئاسة الجمهورية عن قرار الرئيس محمد مرسي سحب جميع البلاغات التي قدمتها الشئون القانونية بمؤسسة الرئاسة ضد عدد من الإعلاميين وذلك إيمانا من الجميع بأن حرية الصحافة المصرية كانت وستظل أحد أهم مقاييس الديمقراطية في هذا الوطن..
وتأتي هذه الخطوة في الاتجاه الصحيح ونحن نسعي جميعا لبناء مجتمع ديمقراطي وحريات كاملة تحتاج من جميع الأطراف وخصوصا الإعلام المصري إلي مبادرات لتعزيز حرية التعبير التي بدأت في الصعود بعد ثورة المصريين في يناير1102, حيث تشير تقارير مؤسسة بيت الحرية'FreedomHouse' إلي أن مصر تحسنت بين عامي2011 و2012 فيما يخص الحريات السياسية,وانتقلت من وضع دولة غير حرة سياسيا إلي دولة حرة جزئيا سياسيا,بسبب الايجابيات الناتجة عن إجراء الانتخابات الرئاسية,أما بالنسبة لمؤشر حرية الصحافة والإنترنت فقد انتقلت مصر أيضا من وضع دولة غير حرة إلي وضع دولة حرة جزئيا في عام2013 وهو تحسن جيد وإن بدا للبعض ضئيلا.
ولقد لعب الإعلام المصري دورا مهما وحيويا قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير في وصول مصر إلي لحظة التخمر الثوري بعد أن حمل علي عاتقه مهمة التنوير بقضايا الحريات ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان وغيرها من القضايا التي شكلت وعيا جمعيا للمصريين, وقدمت أجيال من الاعلاميين في تلك الحقبة نماذج رائعة من النضال في بلاط صاحبة الجلالة انتصارا لهذه المبادئ. وبعد الثورة وصل الإعلام المصري إلي مرحلة دقيقة تحتاج إلي وقفة حكيمة وهادئة بعد أن أصبح طرفا في كل المعارك السياسية ومن المؤكد أنه حتي في أعتي الدول الديمقراطية هناك إعلام له ميول سياسية فهناك الإعلام الليبرالي واليساري والمحافظ وإعلام في الوسط,ولكن كل ذلك لا يأتي علي حساب القواعد المهنية, فالخبر يقدم كخبر أو حدث,وليس رأيا.. لكن بالتأكيد تختلف القراءات للخبر تبعا للسياسة التحريرية لكل مؤسسة إعلامية. وبمراجعة الخبرة الدولية في هذا المجال ومن بينها تجربة بولندا, نجد أن وضعية الإعلام في مصر تتشابه مع الإعلام في معظم الدول التي مرت بمرحلة تحول ديمقراطي,ففي تجربة التحول من الشيوعية إلي الديمقراطية وصف البعض الإعلام البولندي في حينها بأنه غير مستقل ولا يعكس ثقافة التسامح وأنه مسيس,وكان أخطر ما شاب تلك المرحلة هو اقتناع الصحفيين بأن دورهم ليس نقل الاخبار وإنما' تسييسها', أي إعادة تشكيلها في اتجاه سياسي معين. وكانت التوصيات التي خرجت من المؤسسات المتخصصة لتحقيق الديمقراطية والتطوير اللازمين في الأداء الإعلامي هي غرس الحيادية والموضوعية والدقة وأيضا أن يتوقف المواطن عن تلقي المعلومة والاقتناع بها مباشرة, بل عليه أن يتفحصها ويدققها قبل استهلاكها, وهي عملية تحتاج قدرا من الوقت.
لابد إذن من أجل الوصول إلي بر الأمان في هذه القضية من الالتفات الي الجهود الدولية التي بذلت في مجال تعزيز حرية التعبير, والتي منها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام1966, الذي جاء لتعزيز حقوق الإنسان وإسباغ الصفة الإلزامية القانونية عليها وتفصيلها بشكل أكثر دقة, إذ نص هذا العهد في مادته الـ19 علي:'لكل إنسان حق في حرية التعبير ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها ولكن تستتبع ممارسة هذا الحق واجبات ومسئوليات خاصة'. وعلي ذلك يجوز إخضاع حرية التعبير لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محدودة بنص القانون وأن تكون ضرورية وخاصة ما يتعلق باحترام حقوق الآخرين وسمعتهم,وحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة. كما نصت المادة20 من ذاك العهد أيضا علي أنه تحظر بالقانون أي دعاية للحرب, كما تحظر بالقانون أي دعوة إلي الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضا علي التمييز أو العداوة أو العنف.
وقد أكدت هذه المواثيق علي احترام سلوكيات وأخلاق المهنة عن طريق الالتزام بحرية التعليق والنقد,ورفض كل أنواع الضغوطات,والامتناع عن تقاضي أي مكافآت تحت أي بند أو حتي قبول الهدايا,مع الاحتفاظ بأسرار المهنة بالإضافة الي ضرورة أن تمارس حرية الصحافة في إطار أخلاقيات المهنة, وأن تنقل وسائل الإعلام بأمانة ومصداقية الأحداث والمعلومات,مع احترام الحقيقة مهما تكن نتائجها علي الصحفي, لأن من حق المتلقي معرفتها. وفي مصر منذ أسابيع قليلة أعلنت لجنة مستقلة تحت اسم اللجنة الوطنية للدفاع عن حرية التعبير,بحضور إعلاميين وصحفيين وشخصيات عامة عن مبادرة جديرة بالاهتمام لإطلاق أول آلية للتنظيم الذاتي لمهنة الإعلام والصحافة في مصر,وسوف تعمل هذه اللجنة كإحدي مؤسسات المجتمع المدني المستقلة,وتتسم بتشكيل متوازن يضم خبرات مهنية وقانونية تمثل كافة مناحي العمل الصحفي والإعلامي في مصر.
وتضع المؤسسة المقترحة المعايير والأكواد المهنية وأدلة الممارسات الإعلامية,وتطرحها للتوافق العام بين العاملين في مجال الإعلام للالتزام بها, وتتلقي الملاحظات والشكاوي من الأفراد أو أي جهة في حق أنماط الأداء الإعلامي المثير للجدل, وتخضعها لتقييم فني منصف.
وفي هذا الإطار يحتاج الإعلام في مصر إلي سرعة تشكيل المجلس الوطني للإعلام المقروء والمرئي والمسموع الذي سيكون من مهامه وضع' الكود المهني' لأداء الإعلام في مصر علي النحو الذي حدده الدستور وأن تلتزم كل صحيفة أو قناة فضائية بوضع سياسة تحريرية واضحة يلتزم بها المحررون,ومن مهامه الاساسية تطوير وسائل الإعلام الحكومية بشكل يسمح لها بالاستقلال الذاتي والمالي,وتحويلها لتجربة إعلام المجتمع الموجودة في كثير من دول العالم. وكذلك العمل علي حوكمة وسائل الإعلام من خلال تشكيل مجالس إدارة الصحف بالانتخاب ووفق معايير مهنية ولمدة معينة والشفافية الكاملة في مصادر ملكية وتمويل وسائل الإعلام في مصر والسماح لجهات المساءلة بالرقابة المالية علي ملفاتها,مع التزام جميع وسائل الإعلام والعاملين بالالتزام بمستحقات الدولة المالية,والعمل علي إصدار قوانين حرية المعلومات وحرية التداول وكلها مجموعة من القوانين وثيقة الصلة بالصحافة,والنظر أيضا في التشريع الخاص بالحبس في قضايا النشر واختيار نظام بديل يعتمد علي الغرامات المالية المرتفعة وسحب التراخيص في حالات المخالفة الشديدة مع إعداد ميثاق شرف إعلامي جديد يعمل علي إعلاء مصالح الوطن.
والقضية ذات الأهمية في هذا السياق هي تحقيق التوازن في مجال تداول المعلومات بين الصحافة ومؤسسات الدولة دون الاصرار علي قوالب جامدة ومتوارثة,كما يجب الاستثمار في التدريب والتأهيل للأجيال الشابة من الصحفيين والإعلاميين في مصر ويمكن للمنظمات الأهلية ومبادرات المجتمع المدني أن تلعب دورا مهما وبناء في تدريب الصحفيين وغيرهم من العاملين في هذا المجال.
إن الاهتمام بالثقافة الوطنية وهويتها المصرية والمحافظة علي الشخصية المصرية المنتجة للحضارة والتقدم وإعادة مصر إلي ما كانت عليه كمنارة للدول العربية والإفريقية وجامعة للدول الإسلامية يستلزم منا جميعا العمل علي دعم رسالة الاعلام المصري ومساندته في هذه المرحلة كي يعبر مع الوطن مرحلة التحول الديمقراطي دون أن يتشوه الوطن أو أن تغل حرية الإعلام وهو ما لا نتمناه جميعا.

