د. حمدي شعيب
موقف صادم نتذكره كثيراً هذه الأيام بظلاله ورسائله؛ والذي جاء عندما تصاعدت اختبارات المحنة على كعب بن مالك رضي الله عنه؛ لتصل إلى أخطرها: "قال فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشأم ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتاباً من ملك غسان فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها وهذا أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته". [متفق عليه]
لقد كان أقسى اختبار على يد فلاح من الشام؛ وقد جاء برسالة خاصة، ومحاولة خارجية للاختراق؛ أو كما يقولون للصيد في الماء العكر؛ أو كأنها طعم يصطادون به رجلاً من خيرة هذا الجيل الفريد!؟.
وكانت دعوة للهجرة الخارجية، والتخلص من قسوة المقاطعة المجتمعية!؟.
ترى ما هي الرسائل التربوية؛ التي بعثها إلينا كعب رضي الله عنه؛ ونستشعرها من خلال موقفه، وصموده الشامخ أمام هذه المحاولة:
1-إن الإنسان العاقل عندما تصله مثل تلك الدعوات؛ لا ينبغي أن يسيل لعابه لها؛ فيستجيب معالجاً خطأً بخطأ أفدح؛ وهو الانقلاب على مجتمعه!؟.
ويدرك أنها ابتلاء يجب عليه أن يتحصن ضده؛ ويستفيد من تجربته مع الأخطاء!؟.
2-إنها فضيحة علنية أن يأتي هذا الرسول ويسأل الناس في الأسواق عن كعب رضي الله عنه!؟.
وكأنه حاول تفجير حالة من الشماتة؛ أنه وجد فرصة للنيل من الصف المؤمن!؟.
3-تدبر التصرف الحاسم من كعب بحرق الرسالة المشؤومة!؟.
لا تتردد في التخلص مما بحوزتك؛ من ذيول وأسباب قد تؤثر على صمودك أو قراراتك!؟.
4-إذا وصلتك مثل هذه الدعوات والمحاولات الاختراقية؛ فاعلم أنما هي إشارة تحذير لا يراها إلا إنسان حكيم؛ وإنما تدل على خلل داخلي في بوصلتك النفسية الذاتية؛ وهي أنك قد هنت على الله عز وجل، فعصيته؛ فهنت على الناس؛ حتى استضعفوك، واستهانوا بك وبموقفك؛ ووجدوك فرصة؛ ظاهرها مواساتك ومعاونتك؛ ولكن باطنها محاولة لإسقاطك بعد هذا الصعود الراقي في التوبة والأوبة!؟.
نحو ضَوَابِطٌ أَخْلاقِيِّةٌ لأدَبِ الإِنْشِقَاق:
نتذكر هذه الموقف برسائله؛ ونحن نطالع يومياً هذا السيل من والشوارد الذين انشقوا عن جماعاتهم وانفصلوا عن أحزابهم، وانقلبوا على أحباب الأمس، وثاروا على رفقاء الدرب.
وكثرتهم لا تعنينا؛ لأنها تدل على أن البعض رأي أنه لا يطيق الاختلاف مع صحبته وجماعته فآثر الانفصال.
ولكن سلوك البعض منهم جعلنا كما نصحنا أنفسنا وإياهم بأدب الاختلاف؛ فإننا نجد من الضروري أن نتذاكر جميعاً ونتناصح معاً بآداب وضوابط الانشقاق لكل الشوارد؛ والتي من أهمها:
1-امتلك البوصلة:
أي يكون داخلنا فراسة كعب رضي الله عنه وبوصلته التي تستشعر الفتن وهي مقبلة، وتنذر بالخطر المحدق قبل وقوعه.
فكما قيل: أن العالم يرى الفتن وهي مقبلة، بينما الجاهل يراها وهي مدبرة.
ونتذكر دوماً: "سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ". [البخاري ومسلم]
2-كُفَّ هذا ... ولا تَكُبَّ نفسك:
فلقد تألمنا من شهوة الكلام التي أصابت البعض فأخذ يتنقل بين الفضائيات والمنتديات ويطعن في رفقاء ماضيه وأحباء مسيرته.
فإذا لم يرتدع من أنه يؤذي محبيه؛ فليخش هذا التحذير الذي جاء في حديث معاذ مرفوعا: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم الا حصائد ألسنتهم". [أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة]
3-الفارس ... لا يحرق صوره:
الأزمات مدرسة إيجابية؛ رغم قسوتها كما جاء في خلاصة (مديرون مخادعون): (لِلأَزَمَاتُ جَانِبٌ إِيِجَابِيٌ؛ فَعَلَىَ الْرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا تُوُقِعُ الْقَادَةَ فِيِ الأَخْطَاءِ وَتُضَيِّقُ حَوْلَهُمُ الْخِنَاقَ فَإِنَّهَا تَزِيِدَهُم حِنْكَةً وَفَاعِلِيَّةً).
كما أنها اختبار لكشف معادن الفروسية داخل كل منا.
فهناك من يترفع؛ فيسمو فوق محاولات الآخرين لاستقطابه، ولطعن رفاق الأمس.
ولكن هناك من يحرق صوره؛ كما جاء في المثل الصيني: (مَنْ يُضَحِّيِ بِضَمِيِرِهِ لِيُحَقِّقَ طُمُوُحَاتِهِ؛ كَمَنْ يَحْرِقُ صُوَرَهُ لِيَحْصُلَ عَلَىَ الْرَّمَاد).
4-لا تتاجر بتاريخك:
لقد عشت دهراً بين مريدين أحبوك، وأصحاب قدروك؛ فليس من الكياسة أن تكون ضمن الذين يخونون أمانة المجالس؛ فيتاجرون بتاريخهم وتاريخ من أئتمنوك.
فكم من أناس يخوضون في أسرار من أئتمنوهم؛ ونسوا أن: "الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ أَوْ فَرْجٌ حَرَامٌ أَوِ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ". [أبو داوود]
5-لا تضيع رصيدك:
وتدبر هذه الكلمات الرقيقة المعبرة، والذكية الجامعة؛ وهذا الحوار الزوجي الراقي الحاني الشفوق؛ والذي ورد عن الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ عندما رأى الملك في غار حراء للمرة الأولى؛ فرجع (رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره؛ حتى دخل على خديجة فقال: "زملوني، زملوني"!!!.
ثم قال لخديجة: أي خديجة ما لي؟!.
وأخبرها الخبر، قال: "لقد خشيت على نفسي!!!".
قالت له خديجة: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق". ". [متفق عليه]
إنها من أجمل اللمسات التربوية في العلاقات الإنسانية!.
وهي كذلك مفردات تصف ذلك الرصيد الاجتماعي الاستثماري الخيري؛ الذي ينفع صاحبه في هذه اللحظات!.
وأنت أيضاً لك رصيد في قلوب محبيك ومن تربوا على يديك ومن أحبوا طريق الخير بعلاقاتهم بك.
فإذا سمحت لنفسك أن تدمر هذا الرصيد؛ فمحبيك لن يسمحوا لك لأنه رصيدك ورصيدهم كذلك.
6-لا ترفع هذا اللواء:
حتى وإن كنت محقاً في الشكوى من آلام جراحاتك، ومن قسوة رفقاء الأمس؛ فلتخش من أن تكون من ضمن حاملي هذا اللواء: "لكل غادر لواء يوم القيامة، قال أحدهما: ينصب، وقال الآخر: يرى يوم القيامة، يعرف به". [البخاري]
7-تفرس فيمن حولك:
لقد ورد في محنة كعب رضي الله عنه؛ أنه كان صراعه وألمه أنه وجد نفسه تسقط وتهبط إلى مستوى لم يعهده؛ فارتفع بنفسه أن تتساوى مع خليط يهبط به ويثبطه، وهم نفر من القاعدين إما منافق أو صاحب عذر: "فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء". [البخاري]
فتذكر صحبة سابقة لها أخلاقيات سامية وإن أخطأت، ولها غايات وأن قصرت، وقارن بينها وبين صحبة تحيط بك الآن؛ لها أغراض لا تخفى عليك، وينتقمون من آخرين بك؛ فيهبطون بنفسك وبتاريخك، ويثبطونك عن تحقيق أفكار عشت لها عقوداً!.
8-لا تحرق سفنك:
دوماً كن حصيفاً كعهدنا بك، واجعل لك رجعة، ولا تقطع كل حبال الود، واستبق سفينة ترجع بها إلى مرساك، أو لتبحر بك إلى مرسى تختاره بنفسك.
فلا تحرق كل سفنك!؟.
9-كن حراً ... مع قومك وأهلك:
هكذا تكون أخلاقيات الفارس التي تحفظ الوفاء لأهله.
وكن حراً؛ كما قال الشافعي رحمه الله: (الحر من راعى وداد لحظة، أو انتمى لمن أفاده لفظة).
ولا تنس الوفاء لقومك وأهلك؛ حتى وإن ظلموا؛ كما قال الشاعر:
بلدي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ ... وأهلي وإن ضنُّوا عليَّ كِرامٌ
______________
زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS)
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
E-Mail: [email protected]

