د.أحمد السعيد

فى التاريخ برزت شخصية ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفى بكل صفات الخسة والكفر, وتميز فى صفات عديدة عظم منها الكذب حتى لقد طُمِر إسمه ولقبه وأصبح يشتهر "بمسيلمة الكذاب". والكذب إن علا واستفحش تولد منه الكثير من الخبث والغدر والعبث حتى أن صاحبه يسعى إلى أن يبيع آخرته بدنيا زائلة وعرض وغرض زائفيين. ويتدنى قدر الصفات السيئة حتى يكون صاحبها ليس مولد للفتن - وفقط - بل يكون هو أساس الفتنة ومنبعها وصلبها وقائدها وينسى أن " وَالفِتْنَةُ أشَدّ مِنَ القَتْل"191 البقرة.

وفى العصر الحديث ظهرت التكنولوجيا وأصبحت تُسْتَغَل فى كثير من المجالات الحياتية, وإستفادت بها البشرية أيما إستفادة. إلا أن للتكنولوجيا وجه آخر لايقل ضراوة عن وجه مسيلمة وقوة كذبه وخبثه. وبرز الإعلام كتكنولوجيا لها من الحسن والسوء الذى يُسْتَغَل لتحقيق المصالح أو إثارة المفاسد. وعظمت مفاسد الإعلام حتى أصبحت وظيفته الرئيسية الفبركة الإخبارية والدعائية التى إعتمدت على الكذب كصفة أساسية لاتنفك عنه. وكما هو الحال مع مسيلمة, علت الصفات السيئة حتى أصبح الإعلام ليس مولد للفتن – وفقط – بل إنه يعتبر أساس الفتنة ومنبعها وأصلها, بل والذراع الذى يُدار فَيُدِير الفتنة فى شكلها القمئ القذر. وأصبح غالب الإعلام يُعَرْبد تحت قيادة أقلية فاسدة لاتنشد إلا مصالحها الشخصية الذاتية التى إن تعارضت مع الوطن وإستقراره جعلت مصالح البلاد تحت الأقدام وتسلقت رؤوس العباد للوصول إلا الأهداف والغايات, وهذا مايمكن تسميته بفاشية الأقلية التى لاترعى حرمة دم أو ممتلك خاص أو عام أو إستقرار للبلاد أوإعمار. وبالتالى تَغَلَب ثم تَحَكَم رأس المال على الإعلام, فأصبحت الآلة الإعلامية أحد أطراف الصراع, ولعل المرتبات والعطايا والهبات الهائلة التى يلقاها مقدمى البرامج والحوارات أصبحت معلومة للقاصى والدانى وأصبحت من الأمور التى يحكيها العوام فيما بينهم في إندهاش وإستغراب وكأنهم يتكلمون عن قصص من الخيال كقصص ألف ليلة وليلة, وأصبح القول السائد فيما بينهم عبارات كأمثال "تِصَدَقْ إن فلان الإعلامى بياخد كام مليون جنيه في السنة, هو بياخدهم إزاى, وبيشلهم إزاى, وبيقدر يصرفهم إزاى......وغيرها من كلمات إزاى" ومثل هذه العبارات تُدَلِل على شدة الذهول والإستعجاب من قصص وأحوال هؤلاء الإعلاميين وكأننا نتكلم عن قصص السندباد أو نكت جحا. وبهذا الحال أصبح كثير من الإعلاميين يمثلوا رأس الحربة لما يسمى بالدولة العميقة التى لاتألوا جهداً فى محاربة الثورة المصرية المجيدة, وتعمل بكل ماأوتيت من قوة فى أن تصل بالجماهير إلى الكفر بالثورة وإنجازاتها.

وهذا هو النتاج الطبيعى عند تزاوج المال والسياسة ولاسيما إذا كان مأذونهما ومتعهد حفلاتهما هو الإعلام الفاسد.

ومن غريب الأمور أن الإعلام أصبح من الوسائل القذرة لغسيل الأموال, ولقد إستغله الفاسدين دائماً  في تكوين الرأى العام وتوجيهه وفقاً لمخططاتهم الفاسدة, وبالتالى أصبح الإعلام هو المُوَجِه وفق أجندات سياسية خاصة وفاسدة. ولأن الإعلام مجال خصب لمن يريد أن يبيع ضميره, فلقد برزت وجوه عفنة وضمائر خربة تلاعبت بها رؤوس أموال الفلول والخبثاء, وتمايزت هذه الوجوه على حسب درجة "قلة الأدب" التى تستطيع تقديمها للجمهور والمشاهدين والتى تغزو بها البيوت والأماكن العامة كغزو التتار والصليبين. فأصبحوا يحتفون بما هو قيَىء ويزينونه بالإفك والزيف, ويُلْبِسُوا المُشَاهِد نظارتهم السوداء التى تمكنهم من رؤية الحسن سىء والسىء أسوء من خلال برامج مثيرة تشبه إثارة الكعكة الرائعة المظهر المسمومة المذاق. ومن غرائب الأقدار أن تجد غالب الإعلاميين يتكلمون فى نفس الموضوع وبنفس الإسلوب وفى وقت واحد, وكأنك تتقلب بين أكلاشيهات متشابهة أو إفيهات بمعنى واحد, وأصبح الإعلام كالمعادلة الكيميائية التى يأخذ ناتجها لوناً واحداً وبرائحة نفاذة. وأصبح الشعب كالأيتام على موائد لئام الإعلاميين الذين يستخدمون حامض لغوى واحد.وبالتالى تآكلت المنظومة الإعلامية بتآكل الميثاق المهنى الداخلى للإعلامى, وأصبح الأساس الذى يبنى عليه الإعلام هو قوة التزييف والكذب الذى أصبح يقاس بقوة ألاف الأفدنة وملايين الجنيهات, وبالتالى توارت قوة القيم والأخلاق والضمير.ولأن ضمائر بعض الإعلاميين أصبحت معدة للإيجار تجد أن هناك تضارب فى المواقف المختلفة حتى فى الكلام عن إحترام أحكام القضاء, ولعل التباين فى المواقف بين قضيتى وقف بث قناة دريم بسبب المخالفات التى قامت بها وحق الضباط الملتحيين فى العودة لعملهم لخير دليل على ذلك, ولايمكن أن نغفل مواقفهم المخزية من أحداث العنف ضد مقرات الإخوان ومركزهم العام.

وبالتالى ظهرت صناعات إعلامية فاسدة عديدة من أمهرها صناعة الكذب. وبهذا الضمير المُغَيَب وتلك الصفة الذميمة "الكذب" يسعى فاسدى الإعلاميين إلى التسويق للمدنية بمفهومها العلمانى على حساب الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية, ونجحوا فى الأخبار المصقولة والمعلبة كذباً وإفتراءً, وأصبح للإعلام هندسة فاجرة تستخدم فى ميكنة آلة الكذب الإعلامية.

ووافقوا فى ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولا يزال العبد يكذِب ويتحرّى الكذبَ حتّى يكتَب عندَ الله كذّابًا"البخارى ومسلم.

لذا أصبح من المتطلبات الرئيسية فى وقتنا الحاضر أن يُعلى هؤلاء الإعلاميين مصلحة البلاد والعباد, وأن يصححوا ضمائرهم ويوقظوها من سباتها, وأن يتقوا الله فى أقوالهم وألفاظهم, وأن يعلموا أنه "مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ"18 ق, وأن يخافوا يوماً يرجعون فيه إلى الله "ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"161 أل عمران. لذا وجب أن يَغْلِب موجب الإعلام سالبه, وأن يطهر الإعلام نفسه ليظهر بوجهه الحسن فى أبهى صوره, وليعلموا "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ" 105 النحل, وإلا سيكون إعلامهم جدير بإسم إعلام مسيلمة.