د. أحمد السعيد
الضمير هو ذلك المكون الغير مادى الذى من خلاله تحيا حياة المرء بمبادئها وأصولها أو تموت أكلنيكياً إنتظاراً لموت الجسد حتى تُدفن معه غير مأسوفاً عليها. والمُشاهد لمختلف المناحى التى يعج بها المشهد العام يتأكد من أن هناك أزمة ضمير - بل ضمائر - خربت وفسدت بفعل فاعل مع وجود إستعداد سابق لهذا الخراب والفساد والعفن أدى إلى الإنجراف السريع والمتلاحق بدون كبح جماح أو فرامل مساعدة على تقليل هذا الإنجراف وتلك الإنحرافات.
وللتوضيح بشكل أكبر يمكن عرض الضمير على بعض النماذج فى مختلف الجوانب فى حياتنا اليومية:
فى الجانب السياسى:
يمكن القول بأنه هو الجانب المهيمن والمسيطر على كل الجوانب الحياتية المختلفة, وصلاحه أو فساده يكون دافع كبير لصلاح أو فساد كل هذه الجوانب معاً فإن الله ليزع بالسلطان مالايزع بالقرآن.
والمتأمل للحالة السياسية المصرية لايداخله شكٌ فى أن الضمير السياسى قد أصابه العطب والعفن لدرجة أن الكذب والنفاق والتحول والخبث والخداع والخيانة وغيرها من قواميس السوء هى الأخلاق الأساسية والمبادىء الأصيلة التى إتسم بها رموز السياسة وطوائفها المتعددة. فليس من الأخلاق أن يتم الكذب على الدستور فى هجمة شرسة تُحرف نصوصه وتخرجها عن حقيقتها بل وقد تؤلف كذباً وتلفيقاً نصوص ماأنزل الله بها من سلطان من أجل خداع الناس وتضليل الرأى العام. وليس من الأصول السياسية السامية أن تنقلب على الشرعية التى أتت من خلال عملية ديمقراطية سلسة ونزيهة شهدتها الأمة كلها وتابعها العالم أجمع فأثنى عليها وعلى آلياتها وإجراءاتها التى لم نر لها مثيل فى مصر سابقاً أو فى محيطها العربى الديكتاتورى المخزى, بل ونجد من الساسة وأهل السياسة من يطعن فى نزاهتها بسبب فشله فى الوصول لبغيته وفشله فى الوصول إلى قلب وعقل الشعب الذى غالباً لاتنطلى عليه أكاذيب وخرافات وخزعبلات الفاشلين والمهوسيين وأتباع الغرب والشرق المعادى للأمة وثورتها. والسياسة التى تنحى مثل هذه الدروب يكون الفشل حليفها والإنتهاء مصيرها.
ويمكن القول أنه فى مثل هذه الحالة السياسية المضطربة يلعب الضمير المذبوح - تحت أرجل الطامعين والمأجورين من همل البشر - الدور الرئيسى فى ضياع القيم والأسس فى المنافسات السياسية وتحويلها إلى صراعات سياسية ميكافيلية يستخدم فيها جميع الوسائل والأساليب التى غالباً ماتخرج عن الصراط المستقيم والنهج القويم نتيجة ضياع الضمير ونومه فى قبر السياسة البائسة والحقيرة.
فى الجانب القضائى:
إن القاعدة العامة التى تنص على أن العدل أساس الملك تجعل القضاء هو الحصن الذى يحمى الحقوق والحريات والأساس الذى يثبت القيم والمبادىء. ولكن فى الواقع الحالى ليس هناك أدنى شك فى أن القضاء هو رأس الحربة التى يتم غرزها من وقت لأخر فى خاصرة الأمة والثورة لعل وعسى أن يتم القضاء على مكتسبات الثورة المتحققة حتى هذه اللحظات أو تدمير مؤسسات الأمة لإعادة الأحوال إلى سابقها أو على الأقل إستنساخ سابقها فى صورته الحديثة. ولعل الأحكام المتتالية فى كرنفال البراءة للجميع, مع التأخير المتتالى فى قضايا دون قضايا, مع الكيل بمكياليين قى قضايا متماثلة فى العنوان ولكنها تختلف كلية ً فى المبادىء والأخلاق “ولعل قضية قناة الحافظ وغيرها خير مثال على ذلك”. وهذا إن دل على شىء إنما هو برهانٌ واضح على أن الضمير هو الركن الركين عند القاضى الذى من خلاله إما أن يقيم الحق والعدل أو يضيعهما دون وازع ضمير أو تأنيب نفس يؤلب عليه المقام والمنام والمضجع. ومن البديهى أن ضياع الحقوق النابع من غياب الضمائر له من الآثار التى يمكن من خلالها إثارة الفتن والقلاقل والإضطرابات مع تثبيت مبادىء منحطة ومترهلة تؤدى فى نهاية المطاف – حال نجاحها – إلى وأد الثورة وضياع الأمة.
فى الجانب الإعلامى:
فى يومنا الحالى يستخدم الإعلام وكأنه بلطجى مأجور يفعل كل مايطلب منه بعد الدفع له بمايكفى لتغير الضمير أو تغيبه أو حفظه فى التجميد لحين أداء عمليات الهدم والتدمير والتشويه لمؤسسات الأمة ومخلصيها الأبرار. إن حالة الإنعاش التى يحياها الإعلام فى العناية المركزة التى يمتلكها أرباب المال الفاسد وأصحاب الغايات الوضيعة جعلت قلب الحقائق هى السمة الرئيسية للإعلام الخاص الذى بنى على باطل فسار على درب الباطل لينسجم مع حالته التأسيسية الباطلة التى تواكبت مع زمن الظلم والفساد والباطل الذى إنقلب عليه الشعب أجمع فى محاولة لتصحيح الأوضاع وعدل المقلوب.
فهل عنده ضمير حى من يقطع المشاهد ويلصقها بشكل يقلب المعنى ويغيره لخدمة هدف معين وخبيث, وهل من الضمير المتوقد أن تتهم شرفاء البلد بأنهم معاول هدم للوطن وأنهم مضللى الأمة وشعبها. وهل من الضمير المتفتق أن تدلس الحقائق على الجماهير فى برامج حوارية تلعب دور عادل أدهم الشرير الذى يفسد ولايصلح ويخرب ولايعمر من أجل الوصول إلى مأرب دنىء يعمل على الإنقضاض على الشرعية والإرادة الشعبية. وهل من الضمير الواعى أن تنتقى الأخبار بما يتناسب مع هدفك الممقوت فتغيب حين تكون الأخبار ضدك ولاتخدم مبتغاك وتحضر وبشكل مكثف ومفبرك حين يكون الخبر من أخبار الدفع والتأكيد على ماتريده وتصبو إليه.
فى الجانب الأمنى:
حدث ولاحرج, فالأمن هو صمام التقدم والإذدهار للبلاد, وهومفتاح الجذب للسياحة والإستثمارات, وهو باب الإطمئنان الوحيد للوطن والمواطن على وجود دولة يمكن العيش فيها والإستمتاع بمقوماتها وثرواتها, وهو حصن المواطنة . ولكن لايغفل عاقل على أن الأمن هو صنيعة النظام الذى أزاحه الشعب فضاع معه سلطات إلاهية إكتسبها رجال الأمن من غير وجه حق, وضاع معها مكتسبات لكبار جهاز الداخلية فسخطوا على الثورة وصانعيها ومؤيديها وعمل على وأدها من خلال التخلى عن الواجبات والغياب عند الملمات وإستخدام البلطجة وأرباب السوابق فى زعزعة الإستقرار وتكدير الأمن العام.
ولايمكن أن يكون حال الأمن هكذا إلا من خلال ضمير ضعيف يُغلب الصالح الشخصى على الصالح العام والمنفعة الذاتية على المنفعة المجتمعية. وهذا يظهر من خلل شارع يعج بالبلطجة والإنتهاكات والمخالفات دون أن يكون له حامى للأمن أو صائن لحمى الوطن.
إن باقى جوانب الحياة لاتختلف كثيراً عما سبق وذكرته, ولكن يبقى الهدف والغاية والمأمول لعبور هذا الحلقة الخانقة والخطيرة. إن الضمير هو النبض الصاحى والحى الذى من غيره تموت الشعوب والأوطان وتنتهى الأمم والحضارات وتزول القيم والمبادىء. لذا وجب على كل مصرى يعيش فى بلده وعلى ترابها, وينعم بخيرها ونيلها أن يتقى الله فى هذا الوطن ويعمل على حياة ضميره حتى يحيا الوطن ويعلو فوق كل الهامات والرؤوس والمصالح والمنافع وإلا ستغرق السفينة وتهوى فى القاع دون أن ينجو منها أو يفوز بها إلا أعدء الوطن والمواطن.
_______________
[email protected]

