شعبان عبد الرحمن
عندما التقيته للوهلة الأولى ثم أنصت لحديثه بصحبة الأستاذ صادق عبدالله عبدالماجد أحد أبرز مؤسسي العمل الإسلامي في السودان، شعرت أنني أمام كنز علمي كبير، نهض متحدثاً أمام جمع من الحاضرين كانوا في استضافة مجمع الفقه بالسودان، تأكدت من صدق حدسي، ثم طال الحديث بيننا بعدها فترة غير قليلة؛ وهو ما دفعني للفضول في بحث مسيرة الرجل قبل أن يصبح مستشاراً لرئيس الجمهورية لشؤون التأصيل والتخطيط الإستراتيجي منذ مارس 1998م حتى مرضه الذي ألزمه الفراش منذ عام 2011م لمدة عام حتى وفاته يوم الثلاثاء 30 / 10/ 2012م.
فالبروفيسور أحمد علي الإمام يرحمه الله (1945 - 2012م) صاحب مسيرة علمية ودعوية ثرية ومشرفة، صاغتها دراساته المتعمقة لعلوم القرآن وتدريسه لتلك العلوم في داخل السودان وفي بلاد الغرب، واهتمامه بنقد أعمال المستشرقين في لغويات وتاريخ القرآن (1984م)، ثم انهماكه في الدعوة الإسلامية في الغرب وفي أفريقيا، مع مشاركاته للعشرات من الندوات والمؤتمرات داخل السودان وخارجه، ومعرفته الخبيرة بما يدور في العالم حيال الإسلام بالذات.. تلك المسيرة أبدعت منه عالماً فذاً وداعية من الطراز الأول، وفقيها عالماً بما يبيت لبلاده من مؤامرات، وبما يدبر للإسلام على امتداد العالم، وكانت قناعاته التي لا تزحزح أن إعادة الإسلام لحكم بلاده على هدى وبصيرة هو حائط الصد الأول لدفع تلك المؤامرات؛ ولذلك فقد تبوأ الرجال مكانته كمستشار لشؤون التأصيل في رئاسة الدولة، وكان هو والفريق العامل معه بمثابة المصفاة التي تمر منها كل قوانين الدولة؛ لتخرج متطابقة مع أحكام الشريعة الإسلامية دونما ضجيج ولا ترويع للناس بكل الافتراءات التي ألصقها الاستعمار وسماسرته بتلك الشريعة الغراء.. هكذا حدثني عندما دعاني لزيارته في مكتبه بالقصر الجمهوري في الخرطوم، وكنت يومها شغوفاً بمعرفة قصة تلك المستشارية الجديدة على قصور الرئاسة في بلادنا والتي كنت أسمع بها للمرة الأولى في السودان.
ارتبط بالقرآن الكريم منذ طفولته، فقد حفظه صغيراً، ثم تلقى علوم الفقه واللغة على يد والده الشيخ علي الإمام، ثم انتظم في التعليم حتى تخرج في جامعة أم درمان الإسلامية، مروراً بحصوله على درجة الدكتوراه من جامعة أدنبرة البريطانية في علوم القرآن، ثم تدريسه بها، إلى جانب إدارته للمركز الإسلامي بأدنبرة، مع انخراطه بين الجالية المسلمة والمجتمع البريطاني، وهو ما أضاف لتجربته بعداً أوسع وأفقاً أرحب، صقلت وأثرت تجربته في التدريس للعلوم الإسلامية في مدارس السودان عقب تخرجه من جامعة أم درمان الإسلامية، ثم تدريسه في الكلية الإسلامية في زنجبار بتنزانيا، وانهماكه في حقل الدعوة الإسلامية هناك (1974 - 1987م)، ثم رئيساً لجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية.
ولاشك أن تلك التجربة الدعوية والفكرية المتنوعة بين الداخل السوداني وأدغال أفريقيا وساحات العلم في الغرب صاغ منه داعية من طراز فريد، لا يعيش بين دفتي الكتب، ولكن يكابد الدعوة في المعاهد العلمية وبين الشعوب والمجتمعات وعلى موائد المؤتمرات العلمية المتخصصة، فقد كان علماً بارزاً في المجالس العلمية والعالمية، كما تشهد عشرات الكتب والمراجع التي تركها للمكتبة الإسلامية.
لقد كان الرجل صاحب رسالة يعرف طريقه جيداً في خدمة دينه ووطنه، ولذلك فقد ظل منهمكاً في مهمته الأولى كمستشار للتأصيل بعيداً عن أضواء الإعلام، اللهم من خطبة الجمعة بمسجده كل أسبوع، فقد كان حريصاً جداً على لقاء الناس يوم الجمعة من كل أسبوع على الأقل.
أقول: إن هذه المسيرة الزاخرة بالعلم والجهاد بياناً لمبادئ الإسلام وقيمه الرفيعة، ودفاعاً عن الدين وثوابته ومشروعه الحضاري بالكلمة والدعوة وبالإسهام الكبير في إدارة حكم البلاد؛ هي مسيرة جديرة بالتأمل، كما أن صاحبها جدير بالتقدير والاحترام، وقبل ذلك وبعده مثوبة من الله تعالى في فردوسه الأعلى إن شاء الله تعالى.
___________
(*) كاتب مصري - مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية
[email protected]

