م/ محمد أنور رياض

الحقيقة التي يجب أن تظل ماثلة أمام الأبصار لافتة مضيئة معلقة وسط ميادن مصر كلها هي أننا بعثنا للتو من جبانة الفساد الذي قبرنا مبارك فيها ثلاثون عاما حتي تعفن كل شيئ في حياتنا .... ونظرا لما تعرضنا له ــ طوال تلك الفترة البئيسة ــ من سيطرة العشوائية و التخبط و شمولها كل نواحي حياتنا فإن  إصلاح الحال قد يستدعي بإلحاح تفكيك هذه الأوضاع ثم إعادة تركيبها  ...
و يبقي السؤال حائرا ........... كيف؟؟؟؟
واحدة من أكثر هذه الظواهر تعقيدا ما أفرزته هذه العشوائية من إقطاعيات نخبوية حققت كل منها امتيازات و أوضاعا قانونية و مراكز مالية فرضت حولها سورا من حقول الألغام و فخاخا  تهدد كل من يحاول مجرد الاقتراب...
ولنضرب بالمثل الصارخ فيما حدث لأزمة النائب العام
واحدة من المطالب الرئيسية الشعبية الذي رفعتها الثورة  في بدايتها هو رحيل النائب العام ... و لا أريد أن أردد اتهاما بعينه للرجل إلا أنه من المؤكد أنه  كان يعمل ألف حساب لسلطة ولي الأمر المستبد والفاسد والمتمتع بغباء لا نظير له ولا شك أن بطانته كلها كانت علي شاكلته أو أسوأ  فقد استباحوا كل ما عرفته الإنسانية من حقوق .. وقد عاش النائب العام الحالي  هذه المرحلة  محاميا عاما في نيابة أمن الدولة  يأمر باعتقال و حبس المجاهدين ثم إلي أن وصل إلي المنصب الجليل يعمل في تناغم  بدون صدام قانوني  مع هذا الكيان المتعفن فسادا و قيْحا و هو ما يشير إلي وجود علامة استفهام كبيرة عما فعله و ما كان يجب عليه فعله  ضد ما حدث من تغول و اعتداء علي حقوق الشعب بصفته المحامي المدافع عنها ...و كان علي الرجل  الرحيل ليس لهذه الاسباب فحسب و إنما  للسبب الكبير و الأهم  و هو أن لكل زمن رجاله  و لكل نظام  رؤي  و أهداف يلزم لها آليات و حركة تتوافق مع طموحاته ...إلا أن الثوار فشلوا في إقصاء النائب عن موقعه بسب وجود دعم المجلس العسكري  ...الطلب لم يغب عن الذاكرة  تماما فقد كان ينشط مع كل حكم بالبراءة تصدره المحاكم ضد المتهمين بقتل  شهداء الثورة  و إحداث العاهات بمصابيها ....
وصلنا إلي المحطة الهامة بصدور حكم البراءة علي أركان نظام مبارك و\المتهمين بالتحريض علي قتل الثوار يوم 2و 3 فبراير ما سمي بموقعة الجمل ( و الأصح موقعة البغال و الجمال ) ... كان هناك خوف حقيقي من ثورة هوجاء نتيجة الإحساس بضياع دماء الشهداء هدرا بعد أن استقرت القناعة لدي الثوار أن كل المتهمين و هم رموز الفساد و خصيان حسني مبارك و أغوات زوجته و ابنها   قد أجرموا في حق الشعب و أيديهم ملوثة بالدماء و روث الفساد و لم يكن هناك  ذرة شك في أن هؤلاء دخلوا السجن إما ليشنقوا أو يقضوا بقية حياتهم متمتعين بالنظر للسماء من خلال القضبان و ثقوب  الأسلاك الحديدية وكل ما هو مطلوب من المحكمة هو  أن تقوم  بتوثيق رغبة الثوار المشروعة في القصاص  وشفاء لصدور  المكلومين من أولياء الدم....  لذا كانت الصدمة هائلة من صدور حكم البراءة  ــ و بحسب القانون ــ أن الحكم هو عنوان الحقيقة حتي لو خالف الحقيقة ( حد فاهم حاجة ) ...و المحكمة حكمت بما لديها من أدلة ..و لأن  هذه التبريرات و المصطلحات القديمة   لم تعد  تصلح ــ بعد الثورة ـــ كأحذية توضع في الأفواه لذا  كان من الطبيعي أن ينفجر الغضب المكتوم في اتجاه من قدم للمحكمة قضية بأدلة مهلهلة  خاصة و أن ظروف تحقيق القضية  و ملابساتها  عليه الكثير من علامات الاستفهام ... (وفى توضيح أرسله المستشار محمود السبروت الذى انتدب للتحقيق فى موقعة الجمل لقناة النهار قبل أيام قال: بدأنا التحقيقات فى قضية موقعة الجمل بعد أن قطعت النيابة العامة شوطا كبيرا فيها، ورأت بعده لأسباب لم تفصح عنها أن تطلب ندب قضاة تحقيق لاستكمال تحقيق الواقعة، وبعد أن صدر قرار الندب استكملنا التحقيقات)  ....وعليه فإن من حق الجميع أن يسأل: لماذا لم يتم انتداب قاضى تحقيقات فى القضية منذ بدايتها؟ ولماذا لم يكملها النائب العام بعد أن قطعت شوطا كبيرا؟
و من هنا تصدر المشهد  الطلب الثوري القديم بإقالة النائب العام
الذين حاولوا احتواء الموقف  هم  ثلاثة من شيوخ القضاء المعروفين  بالنزاهة و يشهد لهم تاريخهم أنهم دافعوا عن استقلال القضاء و تصدوا لطغيان سلطة مبارك التنفيذية يوم أن تواري غيرهم في الجحور ..و كانت محاولتهم هي في الأساس ترمي إلي الحفاظ علي هيبة القضاء و خروج الرجل بكرامة  و لامتصاص غضبة  شعب  لا يمكن حساب تداعياتها و نتائج صدمتها بعد أن  ضاع بقايا الأمل الأخير في القصاص من  هذه الوجوه العكرة التي كانت تطل علينا طوال سنين التخلف و القهر  في بجاحة و وقاحة  و بعد أن تسرب الأمل مع سلسلة من المحاكمات الفاشلة و التي انتهت بالبراءة     ... كانت عناصر الأزمة المتناقضة واضحة جلية أمامهم فمنصب النائب العام محصن ضد العزل إلا إذا قررت لجنة قضائية عدم  صلاحيته  و لا أظن أن هذا الاتجاه كان مطروحا من الأصل  ... و كان الحل الآخر هو إصدار تشريع يسمح لرئيس الجمهورية بعزل النائب العام وهو أيضا عمل يرفضه الرئيس نفسه ... و قد كان الحل هو اقناع  الرجل بالرحيل وهو ما رضي به ...ثم تراجع ... و كان تراجعه بتحريض من الخفافيش التي خرجت من جحورها مذعورة من وجود نائب عام جديد سيكشف البطحة التي علي رؤوس كثيرة و كبيرة   ....بالطبع كان لابد من الصراخ و الولولة  رافعين قميص عثمان مخضبا بدماء  القضاء المذبوح و هيبتة و استقلاله  الذين ضاعوا... و حتي من رفعوا شعار عزل النائب العام  أيام الثورة و بعدها و هتفوا و احتشدوا و كتبوا و خطبوا و لطموا الخدود عن حق القصاص الضائع  انقلبوا علي أعقابهم و  انضموا إلي نظام الولولة و الشجب لمذبحة القضاء الجديدة ...حتي أن عمار علي حسن نشر رأيا غريبا مفاده أن عزل النائب العام  حتي و إن كان مطلبا ثوريا إلا أنه يعطي الفرصة    للإخوان ليختاروا نائبا عاما مواليا لهم وهما  خيار  مر  ( يعني بكل بساطة  وجود النائب الحالي  بكل ما فيه أفضل من أي نائب يختاره الرئيس  الذي ( أساء  الاختيار )كما حدث من قبل في اختيار رئيس الجهاز المركذي أو المخابرات أو الرقابة الإدارية أو غيرها  ...!!! و  لو عايزين تعزلوه و تعينوا  نائب جديد لابد من موافقة البرادعي و صباحي و حمزاوي و الإبراشي و لميس الحديدي و ربما عكاشة و أبو حامد ....( انظر كيف تعمي الأحقاد الشخصية  العيون عن النظر بموضوعية )  
ماذا يعني هذا ؟؟؟
يعني أنه عندما  يرتفع الصوت  حتي من داخل مؤسسة القضاء نفسها بإلإصلاح و التطوير فإن القوي صاحبة المصلحة  تتصدي لذلك و عندها سنري الزند حامي حمي استقلال القضاء يدعو إلي الاستنفار و الحشد و الاستعداد لخوض الحرب ضد العدو  ..... و يسعي لطلب المدد و العون من الفنانين و الكتاب و الميديا و لا بأس  بو جود عشاق الكاميرا و الميكرفون من أمثال بكري و يحي الجمل و سامح عاشور  و هم كلهم جاهزون لأي جنازة فيها لطم ما دامت ضد الإخوان أعداء العلمانية    ثم يقف في عنترية   ليتوعد بأنه ليس بين القضاة عنان أو طنطاوي ( و هو غمز لا أظن أنه يسعد  المؤسسة العسكرية )
معني هذا أن الوضع الحالي للسلطة القضائية بأوجاعها التي يعرفها كل القضاة   ممنوع الاقتراب منه  و يظل علي حاله كأنما لم تقم ثورة  و كأنما ليس هناك شعب  هو في الأصل من وهب الحصانة للقاضي و منع تعرضه للعزل و الكيد له  حتي يخلص ضميره من أي دخل يؤثر علي حكم ــأي حكم ــ في مصير إنسان ...الشعب يؤمن بأن العدالة يجب أن تظل معصوبة العينين ...و المختلف عليه في كل هذا  هو أن يشعر المواطن العادي بأن القاضي مواطن مثله يعيش ثورته لا يجب أن يعمل بالسياسة و لا يجب أن يقع في خصومة مع أي قوة سياسية  ولا يدفعه أي إنسان مهما كان ليعيش حالة استنفار أو يُستدرج ليعيش حالة العداء للسلطة التشريعية أو التنفيذية لأنه هو المؤهل ليكون حكما بينهما....  و لكن لأنه مواطن يعيش بين أهله و بين الناس آمالهم و آلامهم فإن  التصور الطبيعي  أن يكون سلوك القاضي الذي يمثل أمامه أي مجرم من فلول النظام الساقط   لا يحتاج إلا إلي دليل إدانة ... فإذا وجد أن الأدلة لا تكفي لتحقيق إدانته التي أجمع عليها الشعب و أن حكم البراءة لعدم كفاية الأدلة علي قاتل و فاجر هو ضد قناعته الشخصية قبل أن يكون صاعقا لآمال الشعب و أولياء الدم  عندها  يكون التنحي مخرجا  له  ثم  يعيد القضية إلي النيابة  ليقول لهم أن ( البطيخة طلعت قرعة )
مثال آخر
رفض المحكمة الدستورية العليا كل ماجاء بشأنها في مشروع الدستور
الرفض جاء مكررا نفس المشهد أيام مجلس الشعب عندما حاول أحد النواب السلفيين التقدم بتعديل لقانون المحكمة
مستندا إلي أقوال العديد من شيوخ القضاء ..و بالرغم من أنها  كانت مجرد محاولة من النائب لم يتحمس لها أصحاب الأكثرية من الإخوان و كان  يهدف بها الحفاظ علي استقلالها و منع تسييسها و   ...إلا أن المحكمة بمجرد أن ( شمّت ) الخبر بادرت بالإعلان عن انعقاد جمعية عمومية للتنديد بهذا التوجه ....
هذه المرة كان الرفض لما قدمته التأسيسية في مشروع الدستور من مواد متعلقة بالمحكمة من خلال عدسات و ميكروفونات الفضائيات  و بعد جمعية عمومية «ستظل فى حالة انعقاد دائم إلى أن يتم تصحيح العوار».
و فيما يلي ما كتبه الدكتور حسن نافعة في هذا الشأن::
لا أظن أن أحداً يجادل فى حق المحكمة الدستورية فى إبداء ما يعن لها من ملاحظات، سواء على المسودة المقترحة للدستور ككل أو بصفة خاصة على الجزء المتعلق بالمحكمة الدستورية، أو فى حقها فى إحاطة الرأى العام علما بوجهة نظرها حول مسألة حساسة كى يكون الشعب على بينة من أمره حين يدعى للاستفتاء على الدستور، أو حتى فى حقها فى التعبير عن استيائها من تجاهل الجمعية التأسيسية لوجهة نظرها. غير أن المحكمة ارتكبت، فى تقديرى، خطأ بالغاً، حين تطوعت بتفسير أسباب ودوافع هذا التجاهل وأرجعته إلى اعتبارات سياسية تتعلق برغبة مبيتة من جانب الجمعية لتصفية حسابات قديمة مع المحكمة بسبب الموقف الذى اتخذته من موضوع عودة مجلس الشعب المنحل.
كما أعتقد أن الخطأ تحول إلى خطيئة كبرى حين اعتبرت الجمعية العمومية للمحكمة نفسها فى حالة انعقاد دائم إلى أن يتم تصحيح ما تعتبره عواراً. وليس لهذا القرار من معنى سوى أن المحكمة تعطى لنفسها حقا لا تملكه وتملى على الجمعية التأسيسية نص ما يتعين أن يتضمنه الدستور متعلقاً بها. ولو أخذنا بهذا المنطق يجب فى هذه الحالة أن نسلم لكل هيئة أو مؤسسة أو جهة بحقها فى أن تملى على الجمعية التأسيسية ما يخصها فى الدستور، وهذا هو العبث بعينه.( انتهي كلام الدكتور نافعة )
و أنا أتوقف عند وجود( اعتبارات سياسية تتعلق برغبة مبيتة من جانب الجمعية لتصفية حسابات قديمة مع المحكمة بسبب الموقف الذى اتخذته من موضوع عودة مجلس الشعب المنحل.) ...و هذا ما يستدعي إلي الذاكرة مسلسل حل مجلس الشعب ابتداء من تهديد الجنزوري للدكتور الكتاتني  مرورا بالسرعة غير المبررة للدفع  بالقضية متخطية دور قضايا مجمدة من سنين ثم الحكم بانعدام مجلس الشعب كله بدلا من الحكم في بند الثلث التي طلبت محكمة القضاء الإداري الفتوي الدستورية فيه ثم أخيرا هذا الموقف المتحدي و مظاهرة كبار المحامين الدستوريين و الاحتشاد ضد  قرار رئيس الجمهورية بعودة مجلس الشعب مؤقتا ليملأ الفلراغ التشريعي لتحكم ضده في نفس اليوم  مما عرض الرئاسة في أول عهدها للإحراج و هو أيضا ما كرس  و أكد سلطة العسكري في التشريع و هو وضع شاذ إلا أنه كان الأفضل لفقهاء الدستورية نكاية في الرئيس المنتخب و البرلمان المنتخب ... هذا المسلسل الذي لم يأخذ في اعتباره قيام 30 مليون من شعب المحروسة لأول في تاريخه بالزحف فرحا إلي صناديق الانتخاب ليختار ممثليه بحرية حُرم منها عقودا طويلة ...لم تفلح التحليلات القانونية في تبديد الظنون و الهواجس خاصة و أن واحدة من القضاة كان لها مواقف عديدة من التيار الإسلامي لا تتردد بإعلانه في الفضائيات التي كانت تفسح لها حضورا شبه دائم في استوديوهاتها ...و قد كشفت في حديثها مع الصحفي الأمريكي (ديفيد كيرك باتريك)  معلومات عن علاقتها بالعسكر و هوما  أصبح موضع تحقيق إثر بلاغ  من النائب محمد العمدة....
اصطلاح تصفية الحسابات يعني (وجود تار بايت) وتربص وخصومة مستمرة ... وقد يهبط بالطرفين إلي المستوي المتدني الذي يسمح لهما بكسر كل القواعد الأخلاقية ليفوز أحدهما علي الآخر ... أما في حالتنا هذه فإنه لا يمكن تصور قيام الجمعية التأسيسية و فيها من القامات و رجال مصر  بهدم أو الحد من نشاط مؤسسة قضائية عريقة ... ولا أتصور أن في استطاعة أي قوة سياسية أن تدخل في جو من التخاصم مع القضاء كما لايجب أن يقع القضاء في خصومة مع أحد .. وعليهم أن ينأوا بأنفسهم عن مواطن الشبهات  و الكل يعلم علم اليقين أن القضاء هو حصن العدالة التي هي أساس الملك ــ قد يخطئ بعض أفراده و يقع في غواية السلطة التنفيذية أو يصبح أسيرا  للأضواء و الديكورات فيندلع لسانه ليقع فيما يخالف مقتضيات وظيفة القاضي التي تتسم بالوقار والاتزان والحرص علي تجنب الفخاخ الإعلامية و ذلك كله لكي   تظل المؤسسة كلها سليمة البنيان تنفي خبثها بنفسها
ظاهرة الإقطاعيات النخبوية  تمتد إلي الصحافة و الإعلام وما أدراك ما هما ...كما تمتد إلي الأوكار المتحكمة في تداول أنواع الوقود ... ولا يكاد مرفق من مرافق الدولة أن يخلو منها وهي أورام سرطانية لابد من استئصالها و لكن ... كيف ؟؟؟؟
تعليق قرأته علي الفيسبوك يقول : للقضاء علي الفساد فإنه يتعين علي الرئيس أن يستخدم بخاخ المبيدات للرش من بعيد