عبد الناصر سلامة

رئيس تحرير صحيفة الأهرام الأسبق

 

الموقف المصري، على صعيد الأوضاع الخارجية المتوترة، ليس أفضل حالًا من الشأن الداخلي، الأزمات تتقاطع على الحدود الأربعة، في الشرق مع غزة وكيان الاحتلال، في الغرب مع ليبيا والانقسام الداخلي والتدخلات الأجنبية، في الجنوب حيث الحرب الأهلية بالسودان وأزمات البحر الأحمر القابلة للانفجار، ناهيك من الأزمة مع إثيوبيا بشأن سد النهضة على مجرى النيل، في الشمال، حيث حقول الغاز بالبحر المتوسط، والأطماع الصهيونية، وأزمة ترسيم الحدود البحرية مع تركيا بشكلٍ خاص، أضف إلى ذلك مدى تأثير أحداث المنطقة على الشأن المصري، في كل من لبنان وسوريا واليمن والعراق وإيران وغيرها.

 

ربما لم تكن مصر بهذا الخنوع عبر تاريخها، لم تخضع أبدًا للأوضاع من حولها كما هو الحال الآن، أغمضت عينها عما جرى من تمزيق لليمن، سلّمت بالوضع الحالي المتوتر في ليبيا، جلست على مقاعد المتفرجين على أحداث السودان، استسلمت للممارسات الإثيوبية في نهر النيل، تغاضت عن إبادة الشعب الفلسطيني الشقيق في قطاع غزة، وقعت رسميًا لإسرائيل بحقها في غاز المتوسط، الذي هو في واقع الأمر حق مصري- فلسطيني، بحكم خرائط تقسيم، أقرها البرلمان المصري من قبل، ثم عادت لتشتريه من الكيان، من خلال عقد أخير، بلغ قدره 35 مليار دولار، في سابقة هي الأولى في تاريخ العصابات الصهيونية، حسبما أعلن رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو .

 

هو موقف لا تحسد عليه مصر الدولة، كما لا تلام عليه مصر الشعب، الذي وقع بين مطرقة نظام سياسي قمعي، وسندان حياة اجتماعية بائسة، يرى رئيس الدولة أنها تحتاج مئة عام لتغييرها، ما جعل من التصريحات المتتالية، بشأن هذه القضية أو تلك، حسب تقديرات المراقبين، ضربًا من استهلاك الوقت تارة، وتخدير الرأي العام تارة أخرى، خصوصًا أننا أمام قضايا ليست وليدة اليوم، أو الشهر، أو العام، حتى أصبحت جميعها مزمنة، إلى الحد الذي يصعب، إن لم يكن تغييرها مستحيلا، أو حتى مجرد التدخل فيها من قريب أو بعيد، بعد أن استقرت أوضاعها على هذا النحو المريع.

 

على صعيد السد الإثيوبي، على سبيل المثال، حيث تعتبر مياه النيل هي المصدر شبه الوحيد لحياة الناس، لم تعد تملك مصر حيال هذه القضية، التي تشكل أكبر تهديد للأمن القومي، أي خيارات من أي نوع، سوى التصريحات تلو الأخرى، التي تؤكد أن النيل خط أحمر، وأن مصر تحتفظ بحقها في الرد، وأن القانون الدولي لا يجيز لإثيوبيا الانفراد بالتصرف في حصص المياه، وأن مصر نفد صبرها، إلى غير ذلك من تصريحات. هذه التصريحات ممتدة على مدى عشرة أعوام، منذ أن وقع الرئيس عبدالفتاح السيسي بنفسه، عام 2015، على اتفاق إعلان المبادئ، مع كل من السودان وإثيوبيا، وهو الاتفاق الذي استندت إليه أديس أبابا في بناء السد، ذلك أنه لم يتضمن أي نص يشير إلى حصة مصر، بل استندت إليه أيضًا في الحصول على قروض للبناء، بعد أن كان العالم يرفض الاستثمار في مشروع يحمل من المخاطر، أكثر مما يحمل من ضمانات الأمان، وها هي تبدأ الآن في إنشاء سد آخر على النيل الأزرق، دون أي تنسيق مسبق مع مصر أو السودان. الآن، وبعد أن أصبح السد أمرًا واقعًا، باستثمارات أجنبية، لقوى عظمى وإقليمية، لا تستطيع مصر مجرد التفكير في قصفه أو تخريبه، ذلك أنها سوف تدخل في مواجهة مع هذه الدول مجتمعة، ومن جهة أخرى فإن خزان السد المتخم بالحد الأقصى للملء الآن، الذي يقارب الـ73 مليار متر مكعب، يستحيل أن تفكر مصر في الإضرار به، ذلك أن أي انهيار في جسم السد، معناه غرق نصف الأراضي السودانية على الفور، ثم امتداد الغرق إلى مصر، في غضون 18 يومًا، وهو ما جعل المسؤولون في إثيوبيا يعلنون فور الانتهاء من الملء، أن مصر هي من سيحمي السد ابتداء من اليوم.

 

بالتزامن مع تشييد السد، كانت إسرائيل تقوم في عام 2019 ببناء شبكة دفاع جوي لحمايته، اعتمادًا على منظومة (سبايدر SPYDER) بالدرجة الأولى، وهي منظومة متطورة، تستخدم مقذوفات (بايثون-5) و (ديربي) يصل مداها إلى 80 كيلومترًا، إضافة إلى منظومة صواريخ (بانتسير PANTSiR) الروسية، بمدى 20 كيلومترًا، بما يستهدف في المنظومتين، الأهداف بعيدة المدى، كالطائرات الحربية، أو القصيرة المدى، كالدرونات المسيرة وغيرها، على الرغم من علاقات المصالح المتشابكة بين مصر وإسرائيل، والعلاقات المتميزة إقليميًا بين مصر وروسيا. من هنا، لم يتعامل الشعب المصري، مع التصريحات الأخيرة لبدر عبدالعاطي، وزير الخارجية، على محمل الجد، والتي أكد فيها أن مصر تحتفظ بحق الرد، على الممارسات الإثيوبية من جانب واحد، وأن النيل خط أحمر، إلى غير ذلك من تصريحات لا حصر لها، سواء من وزراء الري المتعاقبين، أو وزراء الخارجية بشكل خاص، وهو الأمر الذي ساعد الجانب الإثيوبي على التشدد أكثر، على خلاف ثلاثة عقود سابقة، كان فيها الرئيس الراحل حسني مبارك حازمًا، بالتهديد المباشر بالقصف، إلى الحد الذي لم تستطع فيه أديس أبابا الإقدام على مثل هذه الخطوة، ولو بحجر أساس فقط، ناهيك من الموقف الأكثر حزمًا خلال مراحل حكم الرئيسين، جمال عبدالناصر وأنور السادات، ذلك أن مشروع السد كان مطروحًا، منذ خمسينيات القرن الماضي.

 

منذ أن أعلنت إثيوبيا رسميًا، في يوليو الماضي، الانتهاء تمامًا من بناء السد والتعبئة، ثبت بالدليل القاطع أنها لا تملك الخبرات الكافية لإدارته، كما لا تملك خبرة التعامل مع دراسات المياه بشكل عام، سواء من حيث الفيضانات والأمطار، أو الجفاف والقحط، وهي الخبرات المتراكمة مصريًا منذ عصور المصريين القدماء، أو الفراعنة، التي سجلتها كتابات الجدران والبرديات منذ آلاف السنين، ليس ذلك فقط، بل سجلها القرآن الكريم من خلال قصة سيدنا يوسف (سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات) سورة يوسف، وهو التراكم المعرفي الذي ظل ممتدًا حتى الآن، بفعل سنوات الفيضان وسنوات القحط، فيما قبل إنشاء السد العالي، وإنشاء معاهد بحوث المياه والصحراء وغيرها، لدرجة أن وزارة الري المصرية، على امتداد تاريخها، كانت تعد من الوزارات السيادية، أو ما هو أكثر.

 

انعدام الخبرة الإثيوبية، بالفتح المفاجئ لبوابات السد، كان سببًا رئيسيًا في ذلك الفيضان الذي دمر أقاليم سودانية عديدة، في شهر سبتمبر الماضي، بعد أيام من الافتتاح الرسمي، وامتد الأثر إلى الأراضي المصرية الواقعة على ضفتي النيل بالصعيد والدلتا، ما ينذر بكوارث مستقبلية حقيقية، إذا لم يتم تدارك الموقف، وذلك بتشكيل إدارة مشتركة للسد، تستفيد من الخبرات المصرية والسودانية في آن واحد، بعد أن أصبح السد واقعًا، في غفلة من الزمن، نتيجة ثقافة الاستسلام المصرية من جهة، وثقافة اللامبالاة السودانية من جهة أخرى، بعد أن ثبت أن تنسيقًا سودانيًا مع إثيوبيا، قد جرى بمنأى عن مصر، خلال مراحل المفاوضات الثلاثية، وها هو الشعب السوداني الشقيق، يسدد ثمن ذلك العبث.

 

المؤكد أن اتجاه النظام الرسمي في مصر، إلى نشر ثقافة الاستسلام داخليًا، تجاه القضايا الخارجية، بهدف السلامة الآنية أو المؤقتة، لأهداف شخصية بحتة، لا يمكن القبول به شعبيًا وتاريخيًا بأي حال، ذلك أننا أمام تصدير مشاكل كارثية للأجيال المقبلة، سوف تنوء بحملها، بدءًا من تسليم جزيرتي تيران وصنافير بالبحر الأحمر للمملكة السعودية دون سند فعلي، أو التنازل عن حقول غاز لإسرائيل بالبحر المتوسط في إطار مكايدات مع تركيا حينذاك، أو التسليم بالوضع الراهن، في ما يتعلق بسد النهضة حتى بلغ الأمر منتهاه، أو التسليم بعمليات البيع المتتالية للأصول والموانئ والسواحل لدولة الإمارات، على الرغم من الشبهات التي تحوم حول الملاك الحقيقيين، ثم بعد ذلك التغاضي عن الأحداث الراهنة في كل من السودان واليمن وليبيا وسوريا، وجميعها قنابل موقوتة، قد لا تتحمل انتظار الأجيال المقبلة.. وإن غدًا لناظره قريب.