في وقت يرزح فيه المصريون تحت وطأة ارتفاع غير مسبوق في كلفة الرعاية الصحية، نتيجة موجة تضخم حادة وارتفاع أسعار المستلزمات الطبية المستوردة، تمضي حكومة السيسي قدمًا في تنفيذ خطتها لإسناد المستشفيات العامة إلى القطاع الخاص، مبررة ذلك بمزاعم تطوير المنظومة الصحية وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
ووفقًا لبيانات وزارة الصحة فإنها تتجه لطرح نحو 160 منشأة صحية أمام القطاع الخاص خلال الأشهر المقبلة، في إطار تطبيق قانون إسناد إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص. وتشمل هذه الخطوة، وفقًا لمصادر حكومية، مستشفيات قائمة في عدد من المحافظات، إلى جانب مستشفيات لا تزال قيد الإنشاء في المدن الجديدة. وقد أثار التوجه جدلًا واسعًا في الأوساط الطبية والمجتمعية، لكونه يأتي ضمن مسار أوسع لتعزيز دور القطاع الخاص في تقديم الخدمات العامة، لا سيما في ظل الضغوط والتحديات التمويلية التي تواجهها الدولة.
ويحذر مراقبون من تداعيات تحويل الخدمة الطبية إلى سلعة استثمارية في مصر، بما يهدد حقوق المرضى الأكثر احتياجًا والاستقرار الوظيفي للآلاف من العاملين في قطاع الصحة، وسط مخاوف من تزايد التكتلات الاحتكارية في القطاع، وتقليص مخصصات توفير العلاج للفقراء ومحدودي الدخل باسم "التطوير"، وفقًا لـ"العربي الجديد"
إدارة أجنبية لمستشفيات مصر
وأعلن رئيس وزراء السيسي الدكتور مصطفى مدبولي موافقة الحكومة على إسناد إدارة وتشغيل مستشفى أو أكثر في مصر إلى مؤسسة "إيني فاونديشن" التابعة لشركة إيني الإيطالية العملاقة للطاقة، بالتعاون مع مجموعة مستشفيات "سان دوناتو" الإيطالية، التي تصنف ضمن أكبر المجموعات الصحية في أوروبا.
وأضاف مدبولي أن انخراط شركة إيني في دعم البنية التحتية للرعاية الصحية، عبر إقامة منشآت طبية متطورة تضم تخصصات دقيقة، يعد نموذجًا يحتذى به في المسؤولية المجتمعية للشركات العالمية الكبرى، كما أنه يعكس تلاقيًا في الرؤى مع الحكومة المصرية، التي تضع "بناء الإنسان وصحته على رأس أولوياتها"، على حد قوله.
بدوره، قال عبد الغفار إن هناك توافقًا بين وزارة الصحة المصرية ومؤسسة إيني على إدارة وتشغيل مستشفى "هليوبوليس الجديد" في منطقة النزهة بالقاهرة، ومستشفى "العاصمة الجديدة 2" في العاصمة الإدارية، في إطار جهود تعزيز البنى التحتية الطبية، وتوفير الخدمات الصحية المتكاملة في القطاع بالشراكة مع القطاع الخاص.
وأضاف أن مشروع مستشفى العاصمة 2 هو نموذج للخدمة الطبية المتطورة، حيث يتميز بموقعه الاستراتيجي وتجهيزاته التي تشمل وحدات قسطرة القلب، وجراحات القلب المفتوح. في حين يتميز مستشفى هليوبوليس بوجود مدرسة للتمريض، وخدمات تخصصية دقيقة تشمل علاج الأورام، والحروق، ووحدة السكتة الدماغية، ويخدم كثافة سكانية عالية في منطقة النزهة (شرقي العاصمة)، والمناطق المحيطة بها.
وذكر عبد الغفار أن الطاقة السريرية لمستشفى العاصمة تبلغ 377 سريرًا، مقابل 443 سريرًا لمستشفى هليوبوليس، مستطردًا بأن وفد مؤسسة إيني زار مستشفى هليوبوليس أخيرًا، وتم التوافق على بدء التعاون المشترك من خلال المستشفى، بحيث يتم الانتهاء من التجهيزات الخاصة بها خلال فترة وجيزة.
تقنين الخدمات
وأصدرت وزارة الصحة قرارات متعاقبة تحظر على الأطباء صرف أدوية مستوردة للمواطنين في المستشفيات الحكومية طالما يوجد مثيل محلي لها، وبمضاعفة أسعار الخدمات في المستشفيات العامة، بما في ذلك أسعار بطاقات الدخول والزيارة والكشف في العيادات الخارجية، والاكتفاء بصرف صنف دوائي واحد للمرضى من "روشتة الأدوية" التي يجري وصفها في المستشفيات.
كما أصدرت لائحة جديدة للمستشفيات والوحدات الحكومية، تتضمن إعادة تسعير جميع الخدمات التي تقدمها المنشآت الصحية التابعة لوزارتي الصحة والتعليم العالي، باستثناء التطعيمات الإجبارية للأطفال، وخدمات الطوارئ، ومبادرات الصحة العامة التي ما زالت بالمجان. وقلصت اللائحة نسبة أسرّة العلاج المجاني بالمستشفيات إلى 25% فقط، فضلًا عن رفع أسعار العلاج بمستشفيات الصحة النفسية ومراكز علاج الإدمان.
وفي مايو 2024، طرحت وزارة الصحة خمسة مستشفيات كبيرة هي مبرة المعادي، وهليوبوليس، والعجوزة، وهرمل، والشيخ زايد، أمام القطاع الخاص. وأعلنت الهيئة العامة للاستثمار، عبر موقعها الرسمي، عن طرح 18 مستشفى حكوميًا ضمن منظومة منح التزام المرافق العامة.
وتتفاوض صناديق استثمار عربية وأجنبية لشراء حصص استراتيجية في المستشفيات وشركات الأدوية الحكومية، استنادًا إلى تشريع صادق عليه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، في يونيو 2024، بشأن "تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية"، والذي أتاح تأجير المستشفيات العامة للمستثمرين لمدة 15 عامًا بحجة تطويرها وتحسين الخدمة العلاجية المقدمة للمواطنين.
وبحسب المعلن، تعتزم مصر طرح 160 مستشفى حكوميًا من أصل 662 في 22 محافظة أمام المستثمرين خلال العامين المقبلين، ما يهدد ملايين المصريين بعدم القدرة على العلاج على نفقة الدولة، وهو الحق المكفول دستوريًا بموجب المادة 18 من الدستور التي أعطت "الحق لكل مواطن في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة، وكفالة الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها، والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل".
يذكر أن نوابًا في البرلمان وجهوا طلبات إحاطة إلى الحكومة حذروا فيها من مخاطر احتكار القطاع الخاص على الخدمات الطبية صحيًا وأمنيًا، بسبب زيادة وتيرة الاندماجات والاستحواذات في القطاع الصحي، الذي أصبح جاذبًا بشكل كبير للمستثمرين نتيجة الأرباح والعوائد الضخمة التي تحققها المستشفيات المصرية مقارنة بالدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط.
كيف نقرأ تداعيات خصخصة المستشفيات؟
تتسق خطة الحكومة لتخصيص المستشفيات الحكومية مع بيئة استثمارية وتشريعية جديدة، يجري إعدادها بعناية لجذب رأس المال الأجنبي إلى قطاع الصحة، وهو ما يثير تساؤلات حول العلاقة المباشرة بين فتح الباب أمام شركات دولية للاستثمار في الصحة، وبين إصدار قانون منح التزام إدارة وتشغيل المنشآت الصحية العامة للقطاع الخاص في منتصف 2024.
ففي السنوات الأخيرة، شهدت مصر دخول عدد من الشركات الأجنبية الكبرى إلى قطاع الرعاية الصحية، أبرزها مجموعة (Humania) التي تديرها شركة سعودي-ألماني بالشراكة مع مؤسسات تمويلية أوروبية، والتي أطلقت مشروع مستشفى دولي في القاهرة بطاقة استيعابية ضخمة، بالإضافة إلى استثمارات صندوق (CDC) البريطاني في مجموعة Alfa الطبية، وصفقات أعلن عنها الصندوق السيادي المصري بالتعاون مع Concord الأمريكية، لتأسيس صناديق متخصصة في الصحة برأسمال مئات الملايين من الدولارات.
هذه الاستثمارات تأتي في سياق رسمي يدعو إلى تعزيز دور القطاع الخاص والأجنبي في تقديم الخدمات الطبية، وهو ما توّج بإصدار القانون رقم 87 لسنة 2024، الذي ينظم لأول مرة إسناد إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية إلى القطاع الخاص، سواء المحلي أو الأجنبي، عبر عقود التزام تصل مدتها إلى 15 عامًا، تتضمن إنشاء وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية العامة. وبينما تقول الحكومة إن القانون يوفر إطارًا شفافًا يضمن استمرار تقديم الخدمات الصحية للمواطنين، ويحافظ على حقوق الفئات غير القادرة، يرى متخصصون أن النصوص الحالية تفتقر إلى ضمانات قانونية حقيقية تقيّد منطق السوق والربحية، خاصة في ظل غياب آليات رقابة واضحة أو اشتراطات ملزمة تحدد نسب الأسرة المخصصة للعلاج المجاني أو المدعوم داخل هذه المستشفيات بعد تخصيصها.
ويحذر باحثون من أن الشركات الأجنبية، رغم ما تحمله من وعود بنقل التكنولوجيا وتحسين الكفاءة، قد تدفع تدريجيًا نحو تحويل مؤسسات الصحة العامة إلى كيانات تجارية بحتة، لا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية وتصاعد معدلات الفقر، ما يُهدد بتقليص فرص ملايين المواطنين في الحصول على خدمات صحية ميسّرة كانت تعتمد عليها الفئات الأشد احتياجًا.
في هذا السياق يعبر الباحث في الشؤون الصحية كريم طارق عن مخاوفه من تداعيات خطة تخصيص المستشفيات، مشددًا على أن المشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في مبدأ إسناد الإدارة للقطاع الخاص، بل في غياب الضمانات الواضحة التي تحمي حق المواطن في العلاج.
ويقول “اطلعت على الأخبار المتعلقة بطرح أكثر من 40 مستشفى للقطاع الخاص، سواء من خلال الإدارة أو التشغيل، لفترات تتراوح بين ثلاث وخمس عشرة سنة، لكننا أمام مشكلتين رئيسيتين، سبق وأن عبّرنا عنهما مرارًا”. موضحًا أن أولى هذه المشكلات تتعلق بعدم وضوح الآلية التي تضمن استمرار تقديم الخدمات العلاجية للمواطنين على نفقة الدولة داخل هذه المستشفيات بعد انتقال إدارتها إلى القطاع الخاص، قائلًا: “لا توجد ضمانات حقيقية بأن تظل هذه المستشفيات ملتزمة بتقديم خدمات علاجية ميسّرة للفئات الأكثر احتياجًا، وما من جهة رقابية واضحة لمتابعة الأداء أو محاسبة المؤسسات الجديدة حال التقصير"، وفقًا لـ"زاوية ثالثة".
أما المشكلة الثانية، وفق طارق، فتتمثل في إمكانية تسريح العاملين داخل تلك المستشفيات بنسبة قد تصل إلى 75% من إجمالي القوى العاملة، استنادًا إلى تقدير الجهة المشغّلة، وهو ما يثير مخاوف مشروعة بشأن مصير هؤلاء الموظفين ومستقبلهم المهني، خاصة في ظل غياب أي خطط معلنة لتوفير بدائل لهم.
ويؤكد الباحث المختص بالشؤون الصحية أن الاعتراض القائم لا يستهدف فكرة إدارة القطاع الخاص للمستشفيات في حد ذاتها، بل ينصبّ على غياب الشفافية، وضعف الرقابة، وعدم وجود التزامات قانونية تضمن تقديم خدمات طبية محسّنة دون تحميل المواطن أعباء مالية إضافية. مستشهدً بتجربة مستشفى هرمل، التي شهدت، بحسب تقارير حقوقية، تأخيرًا في صرف الأدوية وتقديم العلاج لبعض المرضى بعد التعاقد مع جهات خاصة لإدارتها، معتبرًا أن “هذه الواقعة تمثل إنذارًا مبكرًا لما قد تشهده بقية المستشفيات إذا استمر التوسع في التخصيص دون ضوابط واضحة”.
ويضيف: “ما زالت هناك فجوة كبيرة في المعلومات الرسمية بشأن المستشفيات المطروحة للتخصيص، وعدد المرضى المستفيدين من العلاج المجاني فيها، وحجم الخدمات المقدّمة للفئات محدودة الدخل، وكلها عوامل تجعل من الصعب تقييم مدى تأثير القرار على المدى القريب، فضلًا عن استحالة قياس الأثر الاجتماعي والاقتصادي الحقيقي قبل مرور فترة زمنية كافية، وهو ما يُعمّق مخاوفنا من غياب الرقابة وضعف المحاسبة”.

