لم يكن اغتيال رائد سعد مجرد عملية أمنية عابرة في سجل الصراع الطويل بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة المقاومة الإسلامية حماس، بل شكّل حدثًا مفصليًا أعاد طرح أسئلة كبرى حول مستقبل اتفاق وقف إطلاق النار، وحدود التهدئة، وطبيعة الحرب التي تقول إسرائيل إنها انتهت، بينما تشير الوقائع إلى أنها دخلت طورًا جديدًا أقل صخبًا وأكثر دقة.

 

في مساء أول أمس السبت، استهدفت غارة إسرائيلية سيارة مدنية على الطريق الساحلي جنوب غرب مدينة غزة، لتنهي – بحسب الرواية الإسرائيلية – مسيرة أحد أبرز القادة العسكريين في كتائب عز الدين القسام، الرجل الذي تصفه تل أبيب بأنه «العقل العملياتي» لهجوم السابع من أكتوبر، و«الرجل الثاني» في القيادة العسكرية للحركة.

 

عملية «الوجبة السريعة»

 

الإعلام الإسرائيلي أطلق على الاغتيال اسم «وجبة سريعة»، في توصيف يعكس – بوضوح فادح – طبيعة القرار وسرعته. فرصة استخباراتية وُصفت بالمثالية، فاستُغلت على الفور دون تنسيق مسبق مع الولايات المتحدة، في خطوة أقرت بها تل أبيب نفسها، مخاطِرةً بإثارة غضب واشنطن، وفق ما كشفته صحيفة يديعوت أحرونوت.

 

ووفق بيانات جيش الاحتلال الإسرائيلي والشاباك، فإن رائد سعد كان يشغل منصب قائد ركن التصنيع في حماس، وأحد مهندسي خطة «سور أريحا»، التي تقول إسرائيل إنها كانت الأساس لهزيمة فرقة غزة خلال هجوم السابع من أكتوبر 2023.

 

لكن خلف هذا السرد العسكري، تقف حقيقة أكثر تعقيدًا: عملية اغتيال جاءت في ظل سريان اتفاق وقف إطلاق النار، وبعد أقل من شهرين على بدء المرحلة الأولى منه، ما فتح الباب أمام اتهامات مباشرة لإسرائيل بتقويض الاتفاق عمدًا.

 

حماس: إمعان في خرق الاتفاق

 

حركة حماس سارعت إلى التنديد بالغارة، ووصفتها بأنها «جريمة جديدة وإمعان متعمد في خرق اتفاق وقف إطلاق النار»، معتبرة أن استهداف سيارة مدنية داخل مدينة غزة رسالة واضحة بأن الاحتلال لا يرى في التهدئة سوى استراحة عملياتية.

 

وحملت الحركة حكومة الاحتلال المسؤولية الكاملة عن تداعيات هذه الجريمة، مطالبة الوسطاء والدول الضامنة للاتفاق بالتحرك العاجل لوقف ما وصفته بمحاولات نسف التهدئة وإفشالها.

 

من هو رائد سعد؟

 

رائد حسين سعد، من مواليد 15 أغسطس 1972 في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يُعد أحد أبرز القادة التاريخيين في كتائب القسام. التحق مبكرًا بحركة حماس، وبدأت مطاردته من قبل الاحتلال منذ اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987.

 

رغم الاعتقال والملاحقة، واصل سعد مسيرته التنظيمية والعسكرية، وحصل على درجة البكالوريوس في الشريعة من الجامعة الإسلامية أثناء وجوده في السجن عام 1993، ثم نال درجة الماجستير في الشريعة عام 2008.

 

عسكريًا، تنقّل سعد بين مواقع قيادية حساسة:

 

- قائد لواء غزة الشمالي عام 2007

 

- مشرف على تأسيس وتأهيل القوة البحرية للقسام

 

- رئيس ركن العمليات عام 2015

 

- عضو المجلس العسكري المصغر إلى جانب محمد الضيف ومروان عيسى بين 2012 و2021

 

وبحسب الرواية الإسرائيلية، كان من أبرز المسؤولين عن تطوير البنية العملياتية لكتائب القسام، وإنشاء وحدات النخبة، وصياغة خطط المواجهة الواسعة.

 

35 عامًا من المطاردة

 

قصة رائد سعد مع الاستخبارات الإسرائيلية هي واحدة من أطول قصص المطاردة في تاريخ الصراع. نجا من محاولات اغتيال عدة، أبرزها قصف منطقة سكنية في مخيم الشاطئ في مايو 2024، كما عرضت إسرائيل مكافأة مالية قدرها 800 ألف دولار مقابل معلومات تؤدي إلى الوصول إليه.

 

وفي مارس 2024، زعمت إسرائيل اعتقاله خلال اقتحام مجمع الشفاء الطبي، ونشرت صورته ضمن معتقلين، قبل أن تعترف لاحقًا بأن المعلومات كانت خاطئة، في واقعة عكست حجم الإخفاق الاستخباراتي.

 

 

اغتيال بلا تنسيق.. ورسائل متعددة

 

كشفت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن قرار الاغتيال اتُّخذ بموافقة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس، دون إبلاغ واشنطن مسبقًا. وبعد التنفيذ بـ20 دقيقة فقط، تم إخطار الإدارة الأميركية بالأمر الواقع.

 

هذا السلوك، وفق مراقبين، يعكس تحوّلًا في طريقة إدارة إسرائيل للتهدئة: فرض معادلة «الضرب متى شئنا»، حتى في ظل اتفاقات رسمية، وبذرائع أمنية قابلة للتأويل.

 

قراءة أمنية: حرب بلا إعلان

 

يرى الباحث في الشأن الأمني رامي أبو زبيدة أن اغتيال رائد سعد يؤكد أن الاحتلال لا يتعامل مع التهدئة باعتبارها نهاية للحرب، بل كمرحلة عملياتية مختلفة تُدار بأدوات أقل ضجيجًا وأكثر دقة.

 

ويضيف أن الاغتيالات الانتقائية تهدف إلى:

 

- منع المقاومة من إعادة التنظيم والتعافي

 

- استنزاف بنيتها القيادية

 

- الحفاظ على زمام المبادرة الاستخباراتية والعسكرية

 

ويحذّر أبو زبيدة من «تطبيع الاستباحة»، أي تحويل الضربات الخاطفة إلى واقع دائم، ما يعني عمليًا تكريس نزيف دم مفتوح بلا سقف زمني.

 

واقع أمني جديد في غزة

 

اغتيال رائد سعد، بصفته أبرز شخصية عسكرية تُستهدف منذ بدء التهدئة، يضع قطاع غزة أمام واقع أمني جديد: تهدئة بلا ضمانات، واتفاقات تُخرق من طرف واحد، وحرب تُدار في الظل.

 

وبينما تؤكد إسرائيل نجاحها في «تصفية هدف نوعي»، ترى حماس – ومعها قطاع واسع من المراقبين – أن العملية قد تكون شرارة لمرحلة أكثر خطورة، تُفرغ التهدئة من مضمونها، وتُبقي غزة ساحة مفتوحة لاحتمالات التصعيد.