في خطوة جديدة تؤكد إصرار "حكومة الانقلاب" على تصفية ما تبقى من أصول الدولة وتاريخها، عقد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، اجتماعاً "مريباً" لبحث ما أسماه "حلولاً جذرية" لمشكلات الهيئة الوطنية للإعلام (ماسبيرو) والهيئة الوطنية للصحافة. وتحت شعارات براقة مثل "التطوير" و"الاستدامة المالية"، يُخفي النظام نية مبيتة لتحويل قلاع التنوير المصرية إلى مجرد "عقارات" جاهزة للبيع في مزاد الخصخصة، في وقت يُطارد فيه الصحفيون ويُكمم الإعلام المستقل.

 

إن حديث الحكومة عن "حوكمة الإدارة" و"تنمية الموارد" ليس سوى غطاء لتمرير سياسات تقشفية قاسية ستنتهي بتسريح آلاف العاملين وبيع الأصول التاريخية لسداد ديون صنعها فشل النظام الاقتصادي.

 

بينما يتحدث رئيس الوزراء عن "استثمار الأصول"، يرى خبراء أن المصطلح الحقيقي هو "التفريط في الأصول". فالمخطط الحكومي لا يهدف لإصلاح المؤسسات الصحفية لتستعيد دورها التنويري، بل يهدف لتحويلها إلى كيانات تجارية تدر أرباحاً سريعة أو يتم تصفيتها.

 

وفي هذا السياق، حذر الخبير الاقتصادي الدكتور ممدوح الولي، نقيب الصحفيين الأسبق، من خطورة هذا التوجه، قائلاً: "إن حديث الحكومة عن استثمار أصول الصحف القومية هو مقدمة لبيع أراضيها ومبانيها التاريخية في وسط البلد، كما حدث مع مبنى الحزب الوطني وغيره. النظام ينظر لهذه المؤسسات كعبء مالي يجب التخلص منه، وليس كمنبر ثقافي، والحلول المطروحة هي حلول 'مقاولين' لا رجال دولة".

 

ديون "ماسبيرو".. شماعة الفشل الإداري

 

استعرض الاجتماع ملف الديون المتراكمة للتأمينات والضرائب كذريعة رئيسية للتدخل. لكن الحقيقة التي يتجاهلها "مدبولي" هي أن هذه الديون تراكمت بسبب سياسات الدولة نفسها التي فرضت قيوداً على هذه المؤسسات وجففت منابع دخلها لصالح قنوات "الشركة المتحدة" الاحتكارية.

 

وعلق الكاتب الصحفي المعارض خالد البلشي، نقيب الصحفيين، على هذا الملف بقوله: "الأزمة ليست في الديون بل في الاحتكار. الدولة خنقت الصحف القومية وماسبيرو لصالح كياناتها الجديدة، والآن تعاقب الضحية. الحديث عن 'الإصلاح المالي' دون تحرير المجال العام ورفع اليد الأمنية عن الإعلام هو حرث في البحر، والهدف النهائي هو تحويل الصحفيين لموظفي علاقات عامة أو تسريحهم".

 

"إصلاح" أم "تصفية"؟

 

طالب "مدبولي" رؤساء الهيئات بتقديم "دراسات بالأرقام"، في إشارة واضحة لنية الحكومة تقليص الدعم ورفع يدها نهائياً. وهو ما اعتبره مراقبون "ضوءاً أخضر" لموجة جديدة من المعاشات المبكرة الإجبارية ووقف التعيينات.

 

وفي تصريح حاد، قال الإعلامي والناقد حافظ الميرازي: "ما يحدث هو عملية تصفية ممنهجة لماسبيرو لصالح 'إعلام السامسونج'. الحكومة لا تريد إعلام خدمة عامة، بل تريد أبواقاً دعائية تابعة للأجهزة الأمنية. خطة 'تنمية الموارد' تعني ببساطة تأجير استوديوهات ماسبيرو أو بيع أرشيفه، وهو ما يمثل جريمة في حق الذاكرة الوطنية".

 

المثير للسخرية هو حديث رئيس الوزراء عن "أهمية دور هذه المؤسسات في تشكيل الرأي العام"، في وقت يُمنع فيه أي صوت معارض من الظهور على شاشاتها.

 

وعلق الخبير الإعلامي الدكتور حسن علي، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، ساخراً: "أي وعي يتحدث عنه رئيس الوزراء؟ الإعلام القومي تحول لنشرة علاقات عامة للحكومة. التطوير الحقيقي يبدأ باستقلالية هذه الهيئات عن السلطة التنفيذية، لكن الحكومة تريد 'إصلاحاً مالياً' يبقي على التبعية السياسية، وهو وصفة للفشل المزدوج".

 

"الهيكلة".. فزاعة لتهديد العاملين

 

تكرار مصطلح "إعادة الهيكلة" في بيان الحكومة يثير رعب العاملين في قطاعي الصحافة والإعلام، حيث ارتبط هذا المصطلح دائماً بتقليص العمالة.

 

وقد أكد الناشط العمالي والقيادي في دار الخدمات النقابية كمال عباس أن "الحكومة تستخدم الديون كسيف مسلط على رقاب العاملين في ماسبيرو والصحف. 'الحلول الجذرية' التي يتحدثون عنها ستكون على حساب أرزاق الغلابة، بينما يتقاضى المستشارون والقيادات المقربة من الأجهزة ملايين الجنيهات. هذه ليست خطة إنقاذ، بل خطة تصفية حسابات مع قطاع عريض من موظفي الدولة".

 

وفي النهاية فإن ما يجري الترتيب له في الغرف المغلقة لمجلس الوزراء ليس "إصلاحاً"، بل هو فصل جديد من فصول بيع مصر. فبعد بيع الشركات والأراضي، جاء الدور على "الكلمة" و"الصورة". حكومة الانقلاب لا تدرك أن الصحافة والإعلام ليسا "سلعة" تباع وتشترى، بل هما "أمن قومي" وذاكرة أمة، والتفريط فيهما هو تفريط في سيادة الوطن ذاته.