في توقيت لا يمكن وصفه إلا بالاستفزازي، وبينما يقف المواطن المصري عاجزًا أمام أسعار السلع الأساسية، حطت في مطار القاهرة الدولي الطائرة الرئاسية الجديدة (SU-EGY) من طراز "بوينغ 747-8". لم تكن مجرد طائرة، بل "قصر طائر" تكلف خزينة الدولة المنهارة ما يقرب من 500 مليون دولار (قبل التعديلات الفاخرة)، في اعتراف نادر من منصات محسوبة على النظام بحجم الكارثة المالية.
هذا "الوافد الملكي" الجديد لا يعكس تعزيزًا لقدرات الدولة كما تروج الأذرع الإعلامية، بل يجسد حالة انفصال تام لسلطة الانقلاب عن واقع شعب يئن تحت وطأة الديون. نظام يبيع أصول الدولة، ويتنازل عن أراضيها وشواطئها بدعوى "سداد الديون"، ثم يوجه حصيلة هذا البيع لشراء رفاهية شخصية لا طائل منها، في مشهد يعيد للأذهان عصور الإقطاع السياسي، حيث يعيش الحاكم في بروج مشيدة بينما يبحث المحكوم عن رغيف الخبز.
صفقة "لوفتهانزا" المرفوضة.. وفرحة النظام بها
التفاصيل التي تكشفت حول الطائرة تزيد من فداحة الجريمة الاقتصادية. الطائرة التي صنعت في الأصل لشركة "لوفتهانزا" الألمانية عام 2015، تخلت عنها الشركة لأسباب تتعلق بالكفاءة الاقتصادية وإعادة الهيكلة، لتبقى مخزنة حتى التقطها النظام المصري.
ما رفضته شركة طيران عالمية تبحث عن الربحية، اشتراه النظام المصري بـ500 مليون دولار، ثم أنفق الملايين الإضافية في هامبورغ لتحويلها من طائرة ركاب تسع 400 شخص إلى "مقر قيادة طائر" يحتوي على غرف نوم، قاعات اجتماعات، وأجنحة اتصالات آمنة.
إن تحويل طائرة تجارية عملاقة إلى طائرة خاصة لشخص واحد وحاشيته، في دولة تعلن ليل نهار أنها في حالة "عوز"، يطرح تساؤلات مشروعة حول الأولويات. هل كانت مصر بحاجة إلى هذه الطائرة العملاقة لتضاف إلى أسطول يضم بالفعل طائرات "إيرباص A340" وغيرها؟ أم أن "جنون العظمة" والرغبة في استعراض القوة الوهمية هو المحرك الوحيد لقرارات هذا النظام؟
حرق 60 ألف دولار في الساعة.. وقود من دماء المصريين
الكارثة لا تتوقف عند سعر الشراء، بل تمتد إلى تكلفة التشغيل الفلكية. الطائرة المزودة بمحركات "General Electric GEnx" العملاقة تستهلك وقودًا بقيمة 60 ألف دولار لكل ساعة طيران واحدة. هذا الرقم يعني أن رحلة واحدة للرئيس قد تكلف ميزانية الدولة ما يعادل بناء مدرسة أو تجهيز مستشفى في قرية محرومة.
في الوقت الذي ترفع فيه الحكومة الدعم عن الوقود والكهرباء، وتطالب المواطن بـ"التقشف" وتحمل الفواتير الباهظة، لا يجد النظام غضاضة في حرق ملايين الدولارات في الجو. هذه المعادلة المختلة تؤكد أن دعوات التقشف موجهة فقط للفقراء، وأن "الجمهورية الجديدة" هي جمهورية الرفاهية للضباط والمسؤولين، وجمهورية الجباية والفقر للشعب.
بيع الأصول لشراء الرفاهية.. مفارقة "الدولة التاجر"
لعل الجانب الأكثر إيلامًا في هذا المشهد هو السياق الاقتصادي الذي تمت فيه الصفقة. نظام لا يتورع عن بيع أصول تاريخية، وتأجير المستشفيات، والتفريط في مساحات شاسعة من أراضي الدولة وشواطئها لمستثمرين أجانب بحجة توفير العملة الصعبة لسداد فوائد الديون، يقوم في الوقت ذاته بتبديد هذه العملة الصعبة على شراء طائرات رئاسية وتشييد قصور.
إن شراء طائرة بهذا الحجم وهذه الكلفة يكشف كذب الرواية الرسمية حول الأزمة الاقتصادية. فالأزمة ليست في نقص الموارد، بل في سوء إدارتها وتوجيهها نحو مشاريع تخدم صورة "الزعيم" لا مصلحة "الشعب". الطائرة التي تتسع لـ400 شخص في إعدادها التجاري، ستطير الآن محملة بعدد قليل من "علية القوم"، تاركة خلفها ملايين المصريين يتزاحمون في مواصلات متهالكة، ويدفعون من جيوبهم ثمن رفاهية لا يرونها إلا في شاشات التلفاز.
خاتمة: استفزاز لمشاعر الجياع
وصول الطائرة "SU-EGY" إلى القاهرة ليس إنجازًا يُحتفل به، بل هو وثيقة إدانة جديدة تُضاف إلى سجل نظام أدمن استفزاز مشاعر مواطنيه. إنها رسالة واضحة بأن أولويات السلطة تكمن في تأمين رفاهيتها الخاصة، وتحصين نفسها في السماء، بينما تترك الأرض تحترق بنيران الغلاء والفساد. للتاريخ، سيسجل أن مصر في عهد السيسي باعت أصولها لتشتري طائرة، وجوعت شعبها لتطعم غرور السلطة.

