لم يكن صباح مطلع ديسمبر الجاري مجرد بداية شهر جديد، بل كان إعلان حرب صريح شنته حكومة الانقلاب على الاستقرار الهش لملايين الأسر المصرية. ففي لحظة واحدة، تحولت وعود "العدالة الاجتماعية" الزائفة إلى كابوس حقيقي، وتبدد هدوء الأحياء السكنية ليحل محله ذعر جماعي، بعد أن دخلت الزيادات الإيجارية الناتجة عن تقسيم المناطق وفق قانون الإيجار القديم حيز التنفيذ.
ما يحدث الآن في شوارع مصر ليس مجرد تطبيق لقانون، بل هو عملية "تهجير قسري" مقنعة بغطاء قانوني، تديرها سلطة اعتادت الجباية ورفع يدها عن حماية الفئات الأضعف، تاركة المواطنين يواجهون مصيرهم في معركة غير متكافئة بين ملاك يبحثون عن حقوق تأخرت، ومستأجرين قصمت ظهورهم الأعباء الاقتصادية المتتالية.
أرقام "خراب البيوت".. زيادات جنونية بلا رحمة
مع الكشف عن تصنيفات لجان الحصر، تكشفت الخديعة الكبرى التي ساقتها الحكومة للمواطنين. فبدلًا من التدرج العادل الذي روجت له الأذرع الإعلامية، استيقظ الناس على "مقصلة" الأسعار. في المناطق المتوسطة، حيث تعيش الطبقة التي تسحقها قرارات النظام يوميًا، كان الاعتقاد السائد أن الزيادة لن تتجاوز 400 جنيه، لكن الصدمة كانت مروعة حين تلقى الأهالي إنذارات ومطالبات بإيجارات قفزت إلى 4 آلاف جنيه شهرياً دفعة واحدة.
أما في المناطق الاقتصادية، أو ما يمكن تسميته بـ"أحزمة الفقر" التي تحاول الحكومة تجاهلها، فقد تحول الأمر إلى مأساة إنسانية. فكيف لمواطن كان يدفع 100 جنيه بشق الأنفس أن يجد نفسه مطالباً بـ1000 جنيه؟ وكيف لمن رتب حياته على إيجار 300 جنيه أن يواجه فاتورة بـ3 آلاف جنيه في ظل تآكل الرواتب والارتفاع الجنوني في أسعار الغذاء؟ هذه الأرقام لا تعكس أي واقع معيشي، بل تعكس انفصال واضعي القانون عن حقيقة أن السواد الأعظم من الشعب يرزح تحت خط الفقر.
فوضى إدارية متعمدة.. "اضربوا بعض"
المشهد الأكثر عبثية هو حالة الارتباك القانوني والإداري التي تضرب البلاد حالياً. يرى مراقبون أن النظام تعمد إصدار القانون وتطبيقه دون تمهيد كافٍ أو آليات واضحة للتسعير، في تطبيق لسياسة "فرق تسد" وإشعال الفتنة بين فئات المجتمع. لقد تركت الحكومة المالك والمستأجر في مواجهة مباشرة، وفتحت الباب لاجتهادات شخصية في تقدير قيم الإيجار، ما حول العلاقات الإيجارية إلى ساحة صراع مفتوحة.
هذا التخبط ليس عشوائياً، بل هو نتاج طبيعي لعقلية "الجباية" التي لا تهتم بآثار القرارات بقدر اهتمامها بتحصيل الرسوم والضرائب الناتجة عن توفيق الأوضاع الجديدة، حتى لو كان الثمن هو السلم المجتمعي. النقاشات المحتدمة في الشرفات وعلى منصات التواصل الاجتماعي تكشف عن غياب تام للدولة كطرف ضامن أو منظم، حيث تحولت الهواتف المحمولة إلى غرف عمليات لإدارة الأزمة من قبل مواطنين تخلت عنهم حكومتهم.
تفكيك المجتمع وتهديد الطبقة الوسطى
اللافت والخطير أن هذه الأزمة تجاوزت البعد القانوني لتصبح تهديداً وجودياً للتركيبة الاجتماعية في مصر. المخاوف تتصاعد من موجة نزوح جماعي من الشقق السكنية، وزيادة أعداد المشردين أو العائدين إلى العشوائيات، مما ينسف أي حديث عن تطوير عمراني. الطبقة الوسطى، التي كانت يوماً عماد الاستقرار، تجد نفسها اليوم محاصرة بين مطرقة الغلاء وسندان الطرد من المأوى.
النزاعات القضائية التي بدأت تلوح في الأفق ستغرق المحاكم لسنوات، لكن الحكومة لا تبالي. وبينما يحاول البعض التفاوض بأساليب تقليدية لم تعد تجدي نفعاً مع وحش الغلاء، يرى الملاك في الزيادات حقاً، ويرى المستأجرون فيها حكماً بالإعدام المعيشي.
وسط هذا المشهد المتشابك والمأساوي، يظل السؤال الذي يطرحه الشارع بغضب: أين تذهب أموال الجباية إذا كانت الدولة عاجزة عن دعم مواطنيها في سكنهم؟ الحقيقة المرة أن حكومة السيسي لا تسعى لاحتواء الأزمة أو ضمان التوازن، بل تبدو وكأنها تدفع بالمجتمع نحو الانفجار، مؤكدة مرة أخرى أن المواطن البسيط لا مكان له في "الجمهورية الجديدة" إلا كدافع للفواتير أو مشرد على أرصفتها.

