تسعى واشنطن، وفق التسريبات العبرية، لفرض قمة تجمع بين نتنياهو والسيسي، ليست من أجل وقف جرائم الحرب في غزة أو رفع الحصار عن مليوني إنسان، بل من أجل صفقة غاز ومشاريع اقتصادية تعيد تأهيل صورة الاحتلال في المنطقة.

 

هذا التحرك يضع رأس النظام في القاهرة في موقع الشريك في مشروع سياسي يهدف إلى إخراج إسرائيل من عزلتها، بينما تبقى دماء الشهداء ومعاناة النازحين مجرد خلفية تُستغل للابتزاز والمساومة. قبول السيسي بمثل هذا المسار يعني عملياً التوقيع على إعادة دمج إسرائيل في الإقليم فوق جثث الفلسطينيين، مقابل امتيازات مالية وسياسية يحصدها النظام لا الشعب.

 

صفقة الغاز: رهن ثروات المصريين لعقود تحت يد الاحتلال

 

جوهر القصة ليس قمة بروتوكولية ولا صورة في البيت الأبيض، بل صفقة غاز تمتد حتى عام 2040، تشتري فيها مصر نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز من شركات إسرائيلية بنحو 35 مليار دولار، في الوقت الذي تغرق فيه البلاد في الديون والتقشف والفقر.

 

هذه الصفقة تجعل أمن الطاقة المصري مرتهناً لقرار سياسي وأمني في تل أبيب، وتحوّل فاتورة الغاز في جيب المواطن المصري إلى مورد ثابت لاقتصاد الاحتلال وحقل ليفياثان، بدلاً من أن تُوظَّف موارد البلاد في تطوير إنتاج وبدائل محلية حقيقية.

 

الأخطر أن النظام يسوّق هذا الارتهان على أنه “إنجاز استراتيجي”، بينما الواقع أنه ربط مستقبَل أجيال من المصريين بتعاقد طويل الأمد مع دولة تمارس أبشع صور القتل والتجويع في غزة.

 

السيسي كوكيل إقليمي لمشروع التطبيع الاقتصادي

 

الخطة الأميركية التي تُقدَّم تحت عنوان “الدبلوماسية الاقتصادية” ليست سوى موجة جديدة من التطبيع المغلّف بلغة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة ومشاريع مشتركة تشمل مصر وبلداناً عربية أخرى. في قلب هذه الخطة يُستخدم النظام المصري كبوابة عبور لإسرائيل إلى العواصم العربية، وكضامن لأن تتحول علاقات الغاز والاستثمار إلى شبكة مصالح تعزل الشعوب عن خيار المقاومة والمقاطعة.

 

بدلاً من أن تستخدم القاهرة أوراقها وحدودها وثقلها التاريخي لحماية غزة ودعم حقوق الفلسطينيين، يُصر السيسي على لعب دور السمسار الذي يفتح الأبواب السياسية والاقتصادية للاحتلال مقابل صك بقاء في الحكم ورشوة مالية واسترضاء أميركي. هذا الدور لا يدمّر فقط مكانة مصر العربية، بل يضرب ما تبقّى من ثقة شعبية في أي خطاب رسمي يتحدث عن “القضية الفلسطينية” أو “الاستقلال الوطني”.

 

بين اتهامات تل أبيب وتآكل السيادة في سيناء 

 

المفارقة الفاضحة أن إسرائيل، رغم كل هذا الانبطاح السياسي والاقتصادي من جانب النظام، تتهم القاهرة بخرق الملحق الأمني لمعاهدة السلام في سيناء، وتزعم إدخال قوات ومعدات وبناء بنية تحتية عسكرية دون تنسيق كامل. هذه الاتهامات تُستخدم في أروقة واشنطن للضغط على مصر وإعادة تفعيل رقابة دولية مشددة على سيناء، بما يحوّل جزءاً من التراب المصري إلى ساحة مراقبة دائمة تقودها الولايات المتحدة.

 

السيسي، الذي يدّعي أنه “استعاد الاستقرار” و”يحمي الأمن القومي”، يقبل عملياً بمنطق يُبقي حركة الجيش المصري في سيناء خاضعة لنظرة إسرائيلية–أمريكية، فيما تُستغل تلك الورقة للمزيد من الابتزاز السياسي والاقتصادي. وهكذا يتحول الأمن القومي إلى ملف تفاوض على بقاء النظام، لا على حماية حدود مصر وكرامة شعبها.  

 

نظام يشتري شرعيته ببيع الغاز والسيادة 

 

في النهاية، ما يُبنى الآن ليس شراكة متكافئة ولا مشروع نهضة اقتصادي، بل معادلة وقحة: الغاز مقابل الشرعية، والتطبيع مقابل غض الطرف عن القمع الداخلي والانهيار المعيشي للمصريين. السيسي لا يتجه إلى هذه القمة بوصفه رئيساً لبلد يريد انتزاع حقوقه وتحسين شروطه، بل كحاكم منقلب يبحث عن ضمانات أميركية وتمويل إسرائيلي–إقليمي يمنع سقوطه تحت ضغط الأزمات.

 

الثمن يُدفع من جيب المواطن الذي يواجه الغلاء وانهيار الخدمات، ومن كرامة مصر التي تُقدَّم على موائد التسويات، ومن دماء الفلسطينيين التي تُستخدم كورقة ضغط لإبرام صفقات الغاز وفتح الأسواق والشبكات الإقليمية أمام الاحتلال. إن أخطر ما في هذا المسار أنه يربط مستقبل مصر لعقود قادمة بنظام هشّ لا يرى في الوطن إلا رصيداً يُباع وورقة يُساوم بها من أجل البقاء يوماً آخر في السلطة.

 

وأخيرا فإن قمة نتنياهو–السيسي التي تُطبخ برعاية واشنطن ليست حدثاً بروتوكولياً عابراً، بل محطة خطيرة في مسار تحويل مصر إلى تابع اقتصادي وأمني لمشروع إقليمي تقوده إسرائيل وتضمنه الإدارة الأميركية، بينما يُقصى الشعب المصري والفلسطيني عن أي قرار حقيقي.

 

هذه القمة، إن انعقدت، ستكون تتويجاً لسنوات من التفريط في الثروات والسيادة والكرامة، وتأكيداً أن السيسي مستعد لبيع الغاز والموقع والدور والتاريخ مقابل بقائه في الحكم، ليترك لمصر وغزة فاتورة طويلة من الفقر والارتهان والانكسار.