بينما يقف رئيس برلمان العسكر، حنفي جبالي، متباهياً أمام البرلمانات الأوروبية بـ"المعجزة الأمنية" التي حققها نظام قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي في وقف مراكب الهجرة منذ عام 2016، وبينما يواصل عبد الفتاح السيسي ومصطفى مدبولي ترديد نفس الأسطوانة المشروخة في المحافل الدولية لابتزاز أوروبا والحصول على مزيد من المنح المالية، تكشف لغة الأرقام عن واقع مغاير تماماً ومأساة إنسانية لا يمكن تغطيتها بعبارات دبلوماسية. البيانات الدولية الصادمة تفضح "أكذوبة 2016"، وتؤكد أن المصريين لم يتوقفوا عن الهروب من جحيم الانقلاب، بل صاروا "سلعة" في مسارات الموت البديلة، يتصدرون قوائم الغرقى والمفقودين في البحر المتوسط، هرباً من واقع اقتصادي وسياسي خانق لم يترك لهم خياراً سوى الموت في الصحراء أو الغرق في البحر.

 

الهروب الكبير.. أرقام تفضح "الإنجاز الوهمي"

 

الأرقام لا تكذب، وهي وحدها كفيلة بنسف الدعاية الرسمية. فبحسب بيانات المنظمة الدولية للهجرة (IOM) ووكالة الحدود الأوروبية "فرونتكس"، وصل عدد المصريين الذين نجحوا في الوصول إلى السواحل الأوروبية بطرق غير نظامية في الفترة من يناير 2021 وحتى 24 نوفمبر 2025 إلى رقم كارثي بلغ 68,499 مهاجراً. لم تكن مصر مجرد "دولة مصدرة" عادية، بل احتلت مراكز متقدمة ومخزية في "قوائم الهاربي": المركز الأول عام 2022 بأكثر من 21 ألف مهاجر، والمركز الثاني في 2025 حتى نوفمبر بأكثر من 13 ألفاً. هذه الإحصائيات تعني شيئاً واحداً: "إنجاز 2016" المزعوم لم يكن سوى إغلاق لباب واحد، ليفتح النظام أبواب الجحيم الأخرى عبر الحدود البرية مع ليبيا وتونس، دافعاً بشبابه إلى مسارات أكثر وعورة وخطورة، فقط ليقول لأوروبا: "شواطئنا نظيفة.. ادفعوا الثمن".

 

تجارة البشر.. من سواحل مصر إلى صحراء الموت

 

إن التفاخر الرسمي بوقف المراكب من السواحل المصرية ليس "إنجازاً أمنياً وتنموياً" كما يدعي مدبولي، بل هو تكتيك أمني خبيث حوّل مسار الهجرة إلى طرق التفافية قاتلة. فبدلاً من ركوب البحر مباشرة، بات المصريون يقطعون آلاف الكيلومترات في الصحراء الغربية نحو ليبيا وتونس، ليصبحوا فريسة سهلة لعصابات الاتجار بالبشر والميليشيات المسلحة. تقارير "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" ومركز "كارنيغي" لعام 2025، جميعها تؤكد أن السياسات الأوروبية التي دعمها النظام المصري لم توقف الهجرة، بل جعلتها أكثر تكلفة ودموية. لقد تحول المصريون إلى "أرقام" في صفقات الاتحاد الأوروبي مع تونس وليبيا، حيث يتم اعتراضهم وتعذيبهم وإعادتهم قسراً، أو يلقون حتفهم في الصحراء، وكل ذلك يحدث بينما نظام السيسي يقبض ثمن "حراسة الحدود" من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين، متجاهلاً الأسباب الحقيقية التي تدفع هؤلاء الشباب للرمي بأنفسهم في التهلكة.

 

الفشل الاقتصادي.. المحرك الحقيقي لقوارب الموت

 

لماذا يهرب المصريون؟ هذا هو السؤال الذي يتجاهله النظام عمداً. إن استمرار تدفق الآلاف سنوياً، وتصدرهم قوائم المهاجرين غير النظاميين، ليس إلا انعكاساً مباشراً لفشل اقتصادي ذريع وسياسات إفقار ممنهجة. الغلاء الفاحش، انهيار العملة، غياب فرص العمل، القمع الأمني، وانسداد الأفق السياسي، كلها عوامل حولت مصر إلى "بيئة طاردة" بامتياز. حين يغامر شاب بحياته عبر الصحراء الليبية أو يركب قوارب متهالكة من تونس، فهو لا يبحث عن رفاهية، بل يهرب من واقع بات فيه "الموت غرقاً" أرحم من "الموت كمداً" داخل الوطن.

 

ابتزاز رخيص.. النظام "بواب" لأوروبا

 

في النهاية، يبدو المشهد واضحاً: نظام الانقلاب يستخدم ملف الهجرة كورقة ضغط سياسية واقتصادية. فتصريحات الخارجية المصرية المطالبة بـ"دعم مالي" مقابل دورها في وقف الهجرة، تكشف عن عقلية "مقاول الأنفار" التي تحكم الدولة. النظام لا يعنيه حياة المصريين، بقدر ما يعنيه تدفق المساعدات الأوروبية التي تذهب لدعم أجهزته الأمنية وشراء شرعية دولية زائفة. إن استمرار تدفق المهاجرين المصريين بأعداد قياسية في 2025 هو أكبر دليل على فشل "جمهورية الخوف" في توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لمواطنيها، وهو صرخة في وجه العالم بأن دعم الديكتاتوريات لن يوقف الهجرة، بل سيصنع مزيداً من اللاجئين والهاربين من جحيم القمع والفقر.