تعيش الأمة الإسلامية اليوم حالة من التمزق والتشتت، حيث أصبحت أجزاء ومزعاً تمزقها الحدود المصطنعة، والفوارق، والمشكلات المتفاقمة. هذه الحالة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة لواقع تم التخطيط له بعناية فائقة، وتعميقه يوماً بعد يوم من خلال برامج وأجهزة متابعة دقيقة. إن واقع التفتيت الذي تعيشه الأمة اليوم لم يحل بساحتنا اتفاقاً، بل هو واقع تم التفكير في إحلاله واتخاذ التدابير اللازمة له منذ وقت مبكر، يعود إلى القرن السادس عشر. ولئن كان للمخططات الاستعمارية دور بارز في هذا الواقع، فإن للأمة نفسها عوامل ذاتية، أو ما يمكن تسميته بـ "القابلية للفرقة"، ساهمت في تثمير خميرة التشتت وترسيخها.

 

في هذا التقرير، يعيد  الشيخ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب في كتابه الإسلام وهموم الناس، تقديم النص الأصلي الذي يحلل هذه الظاهرة، مستعرضاً الجذور التاريخية للتفتيت، والأسباب الذاتية والموضوعية التي أدت إلى استفحال داء الفرقة في جسد الأمة.

 

التخطيط الاستعماري المبكر لتفتيت الأمة

 

إن واقع التفتيت، الذي تعيشه الأمة، لم يحل بساحنا اتفاقاً، وإنما هو واقع، تم التفكير في إحلاله، واتخذت التدابير اللازمة لذلك، ومنذ وقت مبكر، يمكن إرجاعه، إلى القرن السادس عشر، حين بدأ البرتغالي (هنري الملاح)، أبحاثه في قلعته الشهيرة، عن كيفية أكل الكتف الإسلامية. ثم تلت ذلك اتفاقيات (طورتوزلاس)، بين البرتغال، وإسبانيا، من أجل الإحاطة بالعالم الإسلامي، قصد إضعافه، وتجريده من ميزة التفرد، باحتواء الطريق التجارية، الواصلة بين المشرق والمغرب، بتجاوزه، والمرور على طريق، رأس الرجاء الصالح. ثم تلت ذلك الاتفاقيات المتعددة، بين روسيا، وفرنسا، والنمسا، وإنجلترا... إلى أن جاء الاستعمار الحديث، الذي تمكن، بشكل شبه كلي، من العالم الإسلامي، فقسمه حسبما يراه ضامناً لمصالحه، وأقام وسائل استمرار ذلك. وما اتفاقية (سايكس بيكو) وما تلاها، منا ببعيد.

 

القابلية للفرقة: العوامل الذاتية

 

ولئن كان مالك بن نبي -رحمه الله- قد تحدث عن القابلية للاستعمار، فإنه يحق لنا، بصدد تحليلنا لظاهرة الفرقة، في الأمة الإسلامية، أن نتحدث عن القابلية للفرقة.. فكما للفرقة في أمتنا، أسباب موضوعية، فإن لها -وهي الأسبق- أسبابا ذاتية، وهي التي بملكنا السعي إلى رفعها ابتداء. إن ما حدث في العالم الإسلامي، من تمزيع، وتفريق، من لدن الغرب، لم يكن سوى تثمير لخميرة الفرقة، التي وجدت في الأمة، من جراء، ترهل شبكة العلاقات الاجتماعية، التي كان سداها، ولحمتها، التوجيهات، والأخلاق، والقيم الإسلامية.

 

وفي الصفحات الآتية، سوف نحاول وضع اليد، على بعض أسباب الفرقة في أمتنا، مكتفين في ذلك بلفت النظر إليها، مع بعض تفصيل، لا يتسع المقام لأكثر منه، ولا نحتاج ههنا، إلى التذكير، بأن أمة تنهش كيانها الفرقة، يستحيل فيها، تبني أفرادها، ومؤسساتها، هموم بعضهم بعضاً، بالشكل المطلوب.

 

أسباب الفرقة: تحليل تفصيلي

 

السبب الأول: اضمحلال الوعي بتوالي الأجيال

 

إن توالي الأجيال، بقدر ما يكون مدد قوة، ومصدر تجدد للشعوب، فإنه إن لم يحسن التصرف معه، يمكن أن يتحول إلى مصدر اضمحلال، وذهاب لريح المجتمعات.. فالأفكار تكون واضحة، في أذهان الأجيال المؤسسة، ويكون هنا دفق حضاري، ولكن إن لم تحسن هذه الأجيال المؤسسة، نقل نسغ الحضارة، وإنشاء محيط ثقافي، يمكن من انتقال الأفكار والسجايا، بوضوح، إلى الأجيال التالية، حتى تصير رسالية، بنفس القدر، الذي كان عليه سلفها، فإن الحضارة تضمحل، وشوكة أهلها تخضد. وهذا هو الأمر، الذي برز في تاريخ الإسلام جلياً، حيث رأينا عالمنا الإسلامي، يترنح في مهاوي التخلف، وهو يملك أغنى المكتبات، وأكثر الأفكار نورانية، غير أن هذه المكتبات، وهذه الأفكار، لم تنتقل إلى وجود المسلمين الذهني، بل بقيت على رفوف مكتباتهم، مما حال دون توظيفها في الواقع العيني، وهذا هو المعنى، الذي جاءت إليه الإشارة، في قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) (مريم:59).

 

قال ابن خلدون في هذا المعنى: (باني المجد، عالم بما عاناه في بنائه، ومحافظ على الخلال، التي هي أسباب كونه وبقائه.. وابنه من بعده، مباشر لأبيه، فقد سمع منه ذلك، وأخذه عنه، إلا أنه مقصر في ذلك، تقصير السامع بالشيء، عن المعاني له، ثم إذا جاء الثالث، كان حظه الاقتفاء، والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني، تقصير المقلد، عن المجتهد، ثم إذا جاء الرابع، قصر عن طريقتهم جملة، وأضاع الخلال الحافظة، لبناء مجدهم، واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان، لم يكن بمعاناة، ولا تكلف، وإنما هو أمر وجب لهم، منذ أول النشأة، لمجرد انتسابهم، وليس بعصابة، ولا بخلال، لما يرى من التجلة بين الناس، ولا يعلم كيف كان حدوثها، ولا سببها، ويتوهم أنه النسب فقط).

 

وقد أخرج أحمد وغيره في مسنده، (من حديث زياد بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر شيئاً، ثم قال: وذلك حين ذهاب العلم، قال زياد: فقلت يا رسول الله!: وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونقرؤه أبناءنا، وأبناؤنا يقرؤنه أبناءهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة! أو ليست هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل، ويقرؤونهما أبناءهم، وأبناؤهم يقرؤونها أبناءهم، ثم لا ينتفعون مما فيهما بشيء).

 

إن العلاقات الاجتماعية، التي تكون قائمة، بين أفراد جيل البناة، تكون فيها حرارة، وإيجابية، وتماسك، وهذه مواصفات، تستمد قوتها من وعي الأغلبين، من هؤلاء البناة بالغايات، واستيعابهم للمنطلقات، وتشبعهم بالقيم، واشتراكهم في الثقافة والأفكار.. فيكون النسيج قوياً.. وإذا لم يتم الاهتمام، بنقل هذه الأمور، إلى الأجيال التالية، يحل الاهتراء محل القوة، والصراع محل التعاون، والتنابذ محل التآلف، والتنابز محل الحوار، بل إن هذه القوارض الاجتماعية، في كثير من الأحيان، تورث، ولا سبيل إلى تلافي هذه الأمور، إلا بالوعي بها أولاً، وتشخيصها بدقائقها ثانياً، ثم تفعيل أداة التربية، ووسائلها، وقنواتها، بما فيها المجتمع، باعتباره المربي الوسيط، الأخطر، ثالثاً.. ولست أحسب المجال ينفسح لتفصيل أكثر في هذه القضايا.

 

السبب الثاني: تضخم الذوات

 

الفرقة هي الحالة، التي يبلغها المجتمع، حين يفقد خصيصة الانسجام، فيتفرق أفراده ذرات، من جراء تضخم ذواتهم، عند أنفسهم، فيصبح المجتمع، عاجزاً تماماً، عن أداء نشاطه المشترك، إذ يتعطل الحوار البناء، المتجه إلى حل المشكلات، ليحل محله النقاش العقيم، الذي يروم إثبات الذات، فيصبح كل الجهد المبذول، مجتثاً عن الواقع العيني، ويضيع هدراً، في عالم التنافس والتقايس، الخاويين.. حين تضخم الذوات، يرفض كل فرد من أفراد المجتمع، أن يشذب من حجمه، عند نفسه، ولو شيئاً يسيراً، ليسهل التساكن، ويصبح ممكناً.. إنها ساعة غياب قيم خفض الجناح، والإيثار، والتضحية.. إنها بعبارة أوضح: ساعة الفرقة، وذهاب الريح.

 

السبب الثالث: الاستبداد

 

لقد قلنا في مقدمة هذا الفصل: إن الاستبداد والفرقة، كلاهما سبب ونتيجة في آن، وبالفعل، فإن ما عانته، وتعانيه الشعوب الإسلامية، من استبداد حاجر، على حرية الرأي، تحت ذريعة، عدم شق الصف، والحفاظ على الوحدة، يكمن وراءه شروخ كبيرة، في جسم الأمة، إذ الكبت السياسي، في النهاية، وكما يقول الدكتور عبد المجيد النجار: (ليس إلا تخزيناً في الحقيقة، لأسباب الانفجار، الذي لا يلبث، أن يحدث يوماً ما، والشواهد قائمة هنا وهناك، في البلاد الإسلامية، ولو أتيحت حرية التعبير، ولو في شيء من الضبط، لكانت سبباً في التقارب، بين الفئات، والعائلات السياسية، من جهة، وبين الشعوب، والأنظمة الحاكمة، من جهة أخرى، ذلك لأن حرية الرأي، من شأنها أن تفضي إلى مناخ من الحوار، الذي تتدافع فيه الآراء، في تصريف شئون الأمة، وذلك التدافع، ينتهي في الأخير، إلى قدر مشترك من الاتفاق، يخف به التوتر، الذي يحدثه الكبت، ويهون فيه الأمر، على من أبدى رأيه، وجادل فيه، حتى ولو لم يكن له إلى التطبيق الواقعي طريق)، وإلا فإن الاستبداد والكبت، يقلبان أفراد المجتمع إلى بواطنهم، حيث الغيظ المتميز، ولا باب للتعبير عن الرأي، إلا الانفجار، كما البراكين، فيتفرق المجتمع، ويطير شظايا.

 

السبب الرابع: الفقر في القيم

 

أصول العلاقات الاجتماعية، هي القيم الثقافية، والأخلاقية، السائدة في المجتمع.. وتماسك المجتمع، وعدم تفرقه، رهين بتوافره على أرضية قيمية صلبة، تضمن وحدته.. والمجتمع الديناميكي، هو الذي تكون عنده قدرة، المحافظة على القيم الإيجابية، وإنتاج قيم جديدة، منسجمة، مع هويته، ومرجعيته العليا، الروحية والفكرية، قيم تكون قمينة، بتنظيم العلاقات الاجتماعية، بشكل منضبط، وقابل للتعدية إلى الآخر، من مختلف أجيال، وطبقات المجتمع. ففي لحظة تاريخية معينة، يكون المجتمع محتاجاً، إلى قيمة التضحية، لمواجهة أخطار مؤكدة، وفي أخرى، يكون محتاجاً، لإشاعة قيمة الإخاء، أو قيمة العلم... فإن لم يكن المجتمع متوافراً، على آليات، تفعيل، أو إنتاج القيم، فإن الخراب، يدب إليه، ليصير بعد ذلك أحاديث.

 

وقد شهد التاريخ، كيف أصل القرآن الكريم هذه القضية، حين أشاع قيماً، قوت لحمة المجتمع الإسلامي الوليد، من مثل تأصيله لقيمة التضحية، عن طريق الآيات الكثيرة، التي تبين أجر الشهداء، والمنفقين في سبيل الله، والمؤثرين على أنفسهم، ولو كانت بهم خصاصة، وتأصيله لقيمة الإخاء، عن طريق الآيات، التي بينت المساواة، بين أفراد الجنس البشري، ووحدته في المصدر والمآل، ووحدة العدو الأصلي الشيطان، وتأصيله لقيمة التعلم والتعليم، عبر الآيات الحاضة على ذلك.. مما استتب في المجتمع الإسلامي، وفي عقل أفراده الجمعي، وقوى العلاقات السائدة، فيما بين المسلمين، حتى أوصلها إلى درجة: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)، وبمضي الحقب، فقد المجتمع الإسلامي السيطرة، على آليات تفعيل وإنتاج القيم، مما أفضى به، إلى واقع الفرقة، والتشتت، واستقرار عدد من القيم الاجتماعية السلبية في رحمه... وهذه قضية تحتاج إلى تفكير، من أجل إبراز الآليات، المفعلة للقيم الموجودة، والمنتجة للأخرى المفقودة، والتي يشترط فيها، أن تكون ممكنة، وفعالة، متلائمة مع الواقع، الذي يراد تشغيلها فيه... ومنسجمة مع مرجعية الأمة العليا: القرآن والسنة.

 

السبب الخامس: ألغام استعمارية

 

وهي ألغام غرسها الاستعمار، في واقعنا، بوعي، وفنية، كبيرين، فهي تنفجر، أو تفجر في وجوهنا، لتخلف، أوخم الآثار في مجتمعاتنا... وعلى رأس قائمة هذه الألغام، المغربون من أبنائنا، أسرانا الفكريون، أو كما يسميهم، الرئيس علي عزت بيغوفيتش: (الأبناء المدللون)، الذين ضمهم إليه الاستعمار، في مختلف أوطاننا، واستطاع، أن يحدث في نفوسهم الشرخ، الذي انداح منها، وعبرها، إلى المجتمع كله، فقد استطاع الاستعمار، أن ينشئ أجيالاً، مجتثة عن أصالتها، لا أدوات تحليل لها، منبعثة من كينونتها، ولا لغة، ولا رؤى وتصورات، إلا تلكم الغربية، فأصبح هؤلاء، لا يستطيعون النظر إلى واقعهم، إلا بمقل غربية.

 

وقد شجع على ذلك، ترهل بنية الثقافة الإسلامية، بتضافر وطأة عصور الانحطاط الشامل، الذي مرت به الأمة الإسلامية عموماً، ووطأة الاستعمار، فكان هذا القبيل من مثقفينا، يجدون تزكية، لنبذهم للثقافة الإسلامية، في جهلهم بها أولاً، وفي الضحالة، التي يقدمها بها فريق من (العلماء) ثانياً، وفي السجلات والمؤلفات، التي يطبعها الجمود، والتقليد، والإرهاب الفكري، ثالثاً، ثم في التشويهات، والافتراءات الاستشراقية الغربية والمحلية، التي ألصقت بتاريخها، رابعاً، فحصلت النفرة، نفرة وتباعد، عضداً بالتقاعس المشترك، عن فهم الآخر، ودراسته بما يكفي، وبطريقة موضوعية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية عضداً، بعدم امتلاك أرضية صلبة من ضوابط الحوار، وأخلاقياته، مما أفسح المجال واسعاً، للإقصاء، والإلغاء، والتنابز، بدل التحاور والتفاهم.. وقد تسبب انفصام جسم الأمة هذا، في ميدان أرضية المسلمات، التي ينبغي أن يتم إليها التحاكم، في حالة الخلاف، إذ أصبح لكل فريق مرجعيته، التي يصدر عنها، وإن تلافي هذا المشكل، لا يمكن أن يتم إلا بتوحيد المرجعية، ولا وليجة، إلا بالحوار الشفاف، النزيه، العليم، الطالب للحق، المؤثر له عما سواه.

 

وقد تقلد كثير من هؤلاء الأسرى الفكريين، أهم وأخطر المناصب، في أوطانهم، فهم لا يزالون ماضين في قرضهم، لخيوط شبكة علاقاتنا الاجتماعية، بوعي، أو بغير وعي، غير أنه -وبفضل الله- بدأنا نرقب بأمل أوبة العديد منهم، إلى حمى دينهم، وأصالة أمتهم، مما يبشر - إن شاء الله - بخير، تبشيراً ينبغي أن يسر ولا يغر.