لم تعد شركات التكنولوجيا العملاقة مجرد مزودين لخدمات البرمجيات والسحابيات، بل تحولت – وفقاً لأحدث المعطيات القانونية والحقوقية – إلى "شريك صامت" في منظومة القمع، وربما "شاهد زور" يسعى لإخفاء معالم الجريمة. في سابقة قضائية قد تعيد تعريف العلاقة بين "وادي السيليكون" وجيوش الاحتلال، فجّر "المجلس الأيرلندي للحريات المدنية" قنبلة قانونية في وجه شركة "مايكروسوفت"، متهماً إياها ليس فقط بتوفير البنية التحتية للمراقبة الإسرائيلية، بل بالتورط النشط في "إخفاء الأدلة" ومسح البصمات الرقمية التي تدين الاحتلال بانتهاك حقوق الفلسطينيين.

 

الشكوى المقدمة في دبلن، المقر الأوروبي للشركة، تستند إلى شهادات "مبلّغين" من الداخل، وتكشف عن الوجه القبيح للعولمة الرقمية: حيث تُستخدم الخوادم الأوروبية لمعالجة بيانات ضحايا في غزة والضفة، وحيث يصبح القانون الأوروبي لحماية البيانات (GDPR) مجرد حبر على ورق أمام سطوة التحالف الأمني بين شركات التكنولوجيا وجيش الاحتلال الإسرائيلي.

 

أخطر من مجرد "خدمة سحابية": تواطؤ في طمس الجرائم

 

تتجاوز الشكوى التي رفعها المجلس الأيرلندي السردية المعتادة حول "الاستخدام السيء للتكنولوجيا"، لتصل إلى اتهام جنائي يتعلق بـ "عرقلة العدالة". فبحسب البلاغات الداخلية، قامت مايكروسوفت بالمساعدة في إزالة أو تعطيل الوصول إلى بيانات حساسة تتعلق بأنشطة المراقبة الإسرائيلية المخزنة على خوادمها في أوروبا. هذا السلوك لا يُفسر إلا بوصفه محاولة متعمدة لحماية الجناة من المساءلة الدولية، ومنع المحققين من الوصول إلى "الصندوق الأسود" الذي يحتوي على سجلات المراقبة الجماعية.

 

إن قيام شركة بحجم مايكروسوفت بمعالجة بيانات عسكرية وحكومية إسرائيلية، ثم التدخل لـ "تنظيف" السجلات عندما تحين ساعة الحقيقة، يضعها في خانة "المتستر" على الجريمة. هذا التصرف يضرب في الصميم سيادة القانون الأوروبي، ويشير إلى أن الشركة قد تكون فضلت حماية عقودها المليارية مع تل أبيب على الالتزام بالمعايير الأخلاقية والقانونية التي تملأ بها بياناتها الصحفية.

 

"سحابة الموت": كيف تحولت "Azure" إلى أرشيف للاستخبارات العسكرية

 

الجانب الأكثر رعباً في هذه القضية هو ما كشفته تحقيقات صحفية سابقة (الغارديان و+972) حول تحول منصة "Azure" السحابية إلى مخزن خلفي لوحدة الاستخبارات العسكرية "8200". لم يكن الأمر يتعلق بتخزين ملفات إدارية، بل بتخزين "تسجيلات مكالمات هاتفية" لملايين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

 

هنا، تتحول التكنولوجيا المدنية إلى سلاح عسكري فتاك. فمن خلال تخزين هذه الكميات الهائلة من "البيانات الصوتية" ومعالجتها عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي المملوكة لمايكروسوفت، يُمنح جيش الاحتلال قدرات غير محدودة لـ:

 

1.  الأرشفة القمعية: الاحتفاظ بسجل تاريخي لكل كلمة نطق بها فلسطيني.

 

2.  الاستهداف الآلي: تحويل هذه البيانات إلى "بنك أهداف" للاغتيال أو الاعتقال.

 

3.  الإبادة الرقمية: مسح الخصوصية الفلسطينية بالكامل، وجعل كل مواطن "هدفاً محتملاً" بمجرد استخدامه للهاتف.

 

اعتراف مايكروسوفت لاحقاً بأن هذا الاستخدام "مخالف لقواعدها" جاء متأخراً جداً، وبعد أن سُفكت الدماء بالفعل بناءً على هذه المعلومات. إنه اعتراف "رفع العتب" الذي لا يعفي الشركة من مسؤوليتها عن توفير "البندقية الرقمية" التي استخدمت في القتل.

 

"طابور خامس" داخل الشركة: شكوك حول دور موظفين إسرائيليين في التضليل

 

تكتسب القضية بعداً درامياً خطيراً مع التقارير التي تشير إلى مخاوف الإدارة العليا في مايكروسوفت من تعرضها للتضليل من قبل موظفيها في إسرائيل. الشكوك تدور حول احتمالية قيام موظفين يحملون ولاءً مزدوجاً (للشركة وللمؤسسة العسكرية الإسرائيلية) بإخفاء معلومات جوهرية خلال التحقيقات الداخلية الأولية في مايو الماضي.

 

إذا صحت هذه التقارير، فنحن أمام اختراق أمني وأخلاقي غير مسبوق داخل إحدى أكبر شركات العالم. هذا يعني أن نتائج التحقيق الداخلي الذي برأ ساحة الشركة سابقاً كانت "مفبركة" أو "ناقصة عمداً"، وأن هناك من عمل من الداخل لضمان استمرار تدفق البيانات العسكرية، متجاهلاً قوانين الشركة والالتزامات الدولية. هذا يطرح تساؤلاً حول مدى سيطرة مايكروسوفت الفعلية على فروعها في تل أبيب، وهل أصبحت مكاتبها هناك "ثكنات عسكرية" تعمل بغطاء مدني؟

 

انتهاك السيادة الأوروبية: اختبار حقيقي لـ "لجنة حماية البيانات"

 

تضع هذه الشكوى "لجنة حماية البيانات الأيرلندية" والاتحاد الأوروبي بأكمله أمام اختبار المصداقية. القانون الأوروبي (GDPR) صُمم خصيصاً لمنع إساءة استخدام بيانات الأفراد، ولضمان عدم تحول أوروبا إلى ساحة خلفية للعمليات القذرة.

 

السماح لمايكروسوفت بنقل بيانات استخباراتية إسرائيلية عبر خوادم أوروبية، ثم التستر عليها، يعد انتهاكاً صارخاً للسيادة الرقمية الأوروبية. إذا ثبتت هذه الاتهامات، فإن الشركة تواجه خطر غرامات تصل إلى 4% من إيراداتها العالمية (مليارات الدولارات)، والأهم من ذلك، قد تُجبر على تفكيك بنيتها التحتية التي تخدم الاحتلال. الصمت الأوروبي في هذه الحالة لن يُفسر إلا كضوء أخضر لشركات التكنولوجيا لتكون فوق القانون عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.

 

الخاتمة: نهاية أسطورة "الحياد التكنولوجي"

 

إن قضية مايكروسوفت والمجلس الأيرلندي تسقط ورقة التوت الأخيرة عن عورة "الحياد التكنولوجي". لم تعد هذه الشركات منصات محايدة، بل أصبحت جزءاً من البنية التحتية للاحتلال والفصل العنصري. ما كشفته هذه الشكوى هو أن وادي السيليكون لا يصنع المستقبل فحسب، بل يساهم في هندسة الموت في الحاضر.

 

الرسالة التي يبعث بها موظفو حملة "No Azure for Apartheid" والمجلس الأيرلندي واضحة: التكنولوجيا التي تمكّن من مراقبة شعب كامل وحبسه في سجن رقمي هي تكنولوجيا "إجرامية". واليوم، تقف مايكروسوفت عارية أمام حقيقتها؛ فإما أن تكون شركة تلتزم بحقوق الإنسان، أو أن تعلن نفسها رسمياً كمتعهد تقني لجرائم الحرب. التاريخ لن يرحم، والسجلات التي حاولت الشركة إخفاءها قد تكون هي نفسها حبل المشنقة الذي سيلتف حول سمعتها الأخلاقية إلى الأبد.