في الوقت الذي يئن فيه المواطن المصري تحت وطأة غلاء فاحش وتضخم يلتهم كل شيء، تستعد حكومة الانقلاب لتوجيه صفعة جديدة لجيوب الغلابة والطبقة المتوسطة، وهذه المرة عبر "فاتورة النور" التي أصبحت كابوساً شهرياً.
كعادتها في سياسة "لحس الوعود"، تستعد وزارة الكهرباء لتطبيق زيادات جديدة في أسعار الشرائح قد تصل إلى 28% قبل نهاية مارس المقبل، ضاربة عرض الحائط بتصريحات الوزير محمود عصمت نفسه قبل شهرين فقط، حين أقسم بأنه "لا نية لتحريك الأسعار حتى نهاية 2025".
هذا التراجع المخزي يؤكد أننا أمام نظام لا يملك رؤية ولا عهداً، بل يملك فقط "آلة حاسبة" لجمع الجباية من المواطنين لتغطية فشله الاقتصادي الذريع.
زيادة الـ 28%.. عقاب جماعي تحت مسمى "تكلفة الإنتاج"
التسريبات القادمة من داخل وزارة الكهرباء تكشف عن كارثة مرتقبة؛ فالزيادة المخطط لها لن ترحم أحداً، وستبدأ بالقطاع التجاري لتمتد إلى المنازل، بنسب تتجاوز الـ 25% وتصل لـ 28% للشرائح العليا. الذريعة الجاهزة دائماً هي "ارتفاع تكلفة الإنتاج" و"زيادة استهلاك الغاز"، وكأن المواطن هو المسؤول عن فشل الحكومة في إدارة موارد الطاقة أو عن صفقات الغاز المشبوهة التي حولت مصر من مصدر للطاقة إلى مستورد لها بالديون.
الأرقام التي يسوقها المسؤولون (استهلاك 3.4 مليار قدم مكعب غاز يومياً) لتبرير الزيادة هي في الحقيقة إدانة لسياساتهم؛ فبدلاً من الاستثمار في الطاقات المتجددة الرخيصة كما يفعل العالم، أهدر النظام المليارات على محطات تقليدية تستهلك الوقود بشراهة، ثم يأتي الآن ليطالب الشعب بدفع ثمن هذا الفشل الإداري من دمه.
"ادعولنا".. سخرية الوزير من مآسي الشعب
في مشهد يعكس قمة الاستخفاف والاستعلاء، رفض وزير الكهرباء الرد على أسئلة الصحفيين حول الزيادة الكارثية، مكتفياً بعبارة ساخرة: "ادعولنا". هذه الكلمة تلخص فلسفة نظام الانقلاب تجاه المواطن: نحن نفعل ما نريد، وأنتم ليس لكم سوى الدعاء!
الوزير الذي نفى الزيادة قبل أسابيع، لا يجرؤ اليوم على المواجهة، فيلجأ للتهكم، بينما يعلم أن قراره سيغلق آلاف الورش والمحلات التجارية التي ستعجز عن دفع فاتورة "التجاري" التي ستبدأ بها المذبحة، وسيدفع آلاف الأسر إلى الظلام العاجز عن سداد فاتورة "المنزلي".
إن "دعاء" الوزير لن يحل أزمة مواطن يدفع بالفعل أسعاراً عالمية (تصل لـ 2.3 جنيه للكيلووات) بينما يتقاضى رواتب من أدنى الرواتب في العالم.
لعبة "القط والفأر" مع الأسعار.. استراتيجية الخداع
ما يحدث هو تطبيق حرفي لسياسة "الصدمة المتدرجة". الحكومة بدأت بالحديث عن زيادة 20%، ثم رفعت السقف لـ 28%، وسربت الأخبار عبر "مصادر مجهولة" لتهيئة الرأي العام وامتصاص الصدمة قبل الإعلان الرسمي.
هذه الألاعيب المكشوفة لم تعد تنطلي على أحد. النظام الذي رفع الدعم نهائياً عن الطاقة، لا يزال يطارد المواطن بزيادات دورية، محولاً خدمة الكهرباء من حق أساسي إلى "سلعة فاخرة" لمن استطاع إليها سبيلاً.
الشرائح الحالية (التي تبدأ من 68 قرشاً وتصل لـ 2.3 جنيه) هي أصلاً أسعار تفوق قدرة السواد الأعظم، وأي زيادة جديدة تعني ببساطة حكماً بالإعدام الاقتصادي على ملايين الأسر.
فاتورة الفشل: وقود بالديون ومحطات بالفساد
اجتماع وزارتي الكهرباء والبترول المرتقب لتحديد "تكلفة الوقود" هو اجتماع لتقاسم الفشل، لا لحل الأزمة. المشكلة ليست في سعر الوقود العالمي، بل في انهيار العملة المحلية نتيجة سياسات الاقتراض السفهي، وفي سوء إدارة ملف الغاز الذي جعل محطات سيمنز العملاقة (التي تفاخر بها السيسي) عبئاً بدلاً من أن تكون حلاً، لأنها تعمل بالغاز المستورد بالدولار الذي لا تملكه الدولة.
الحكومة تريد من المواطن أن يدفع ثمن الغاز بالسعر العالمي، وثمن المحطات بقروضها وفوائدها، وثمن فساد الإدارة في شركات التوزيع. إنها "جباية ثلاثية الأبعاد" تجعل من فاتورة الكهرباء وثيقة إثبات لفشل نظام كامل، يدفع ثمنه المواطن من قوته ومن نور بيته.
خاتمة: "الظلام" هو النتيجة الحتمية
مع اقتراب مارس، لن يكون أمام المصريين سوى خيارين أحلاهما مر: إما الدفع من لحمهم الحي، أو العودة لعصر الشموع. الزيادة المرتقبة بنسبة 28% هي إعلان حرب على الفقراء، ورسالة واضحة بأن "الجمهورية الجديدة" لا مكان فيها للضعفاء.
وبينما يطلب الوزير "الدعاء"، يرفع الشعب أكفه إلى السماء، ليس ليدعو للوزير بالتوفيق، بل ليدعو عليه وعلى منظومة الظلم التي جعلت من الكهرباء سيفاً مسلطاً على الرقاب بدلاً من أن تكون نوراً في البيوت.

