خرج وزير الدفاع والإنتاج الحربي الفريق أول عبد المجيد صقر في افتتاح معرض «إيديكس 2025» للصناعات الدفاعية في حضور السيسي، ليقدّم ما يشبه بياناً سياسياً متكاملاً عن دور الجيش المصري في الداخل والخارج. يقول الوزير إن «امتلاك مصر لمختلف عناصر القدرة هو استثمار في السلام الحقيقي»، وإن «الجيش المصري قوة رشيدة تحمي ولا تهدد وتبني ولا تهدم»، مضيفًا أن تحذيرات السيسي المتكررة من انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة كانت «رؤية ثاقبة وصوتًا للحكمة» تجسّد في مؤتمر شرم الشيخ للسلام الذي استضافته مصر. هذا الكلام، الذي يبدو للوهلة الأولى منمقاً ومصاغاً بعناية، يفتح باباً واسعاً لقراءة نقدية من خبراء السياسة والأمن والاقتصاد.

 

أول ما يلفت انتباه المراقبين هو التناقض بين خطاب «السلام» وواقع معرض سلاح ضخم تتباهى فيه الدولة المصرية بتطوير قدراتها العسكرية وتوقيع صفقات جديدة في وقت تعاني فيه البلاد أزمة اقتصادية خانقة، وتنهار القدرة الشرائية لغالبية المواطنين، ويتسع نطاق الفقر بشكل غير مسبوق بحسب تقارير دولية مستقلة. الظهور المكثف للسيسي في أروقة «إيديكس» وتصوير المعرض كمنصة لـ«الثقل السياسي والعسكري» لمصر يقرأه كثير من المحللين باعتباره رسالة للخارج بأن النظام ثابت ومستعد عسكرياً، ورسالة للداخل مفادها أن الجيش هو مركز القوة الوحيد، وأن أي نقد للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يجب أن يبقى تحت سقف «اعتبارات الأمن القومي».

 

خبراء العلوم السياسية يرون أن وصف القوة العسكرية بأنها «استثمار في السلام» يصبح غير مقنع حين تتورط السلطة نفسها في سياسات داخلية تقمع الحريات، وتوسع من دور الجيش في الاقتصاد، وتحول أي احتجاج اجتماعي إلى ملف أمني. السلام ليس مجرد غياب الحرب الخارجية، بل هو أيضاً عدالة داخلية وحقوق سياسية واجتماعية. في بلد تُحاكم فيه الأصوات المعارضة، ويُحاصر فيه المجتمع المدني، وتتزايد فيه شكاوى المواطنين من الفقر وغلاء الأسعار، يصبح الكلام عن «قوة رشيدة تبني ولا تهدم» نوعاً من قلب المعادلة: فالقوة التي تقف خلف استنزاف موارد البلاد في مشروعات بلا جدوى واضحة، وتستحوذ عبر شركاتها على قطاعات اقتصادية حيوية، تمارس فعلياً هدمًا بطيئًا للبنية الاجتماعية والاقتصادية، مهما حاول الخطاب الرسمي ترويج صورة عكسية.

 

أما عن كلمة السيسي في افتتاح إيديكس 2025 تبدو، في نظر كثير من المنتقدين، نموذجًا لخطاب يجمّل عسكرة الدولة تحت لافتة «السلام» بينما يمنع أي نقاش حقيقي عن كلفة هذا المسار على الداخل المصري وغزة والمنطقة. فالحديث عن «مصر أرض سلام» وسط استعراض ضخم للسلاح وصفقات تسليح، وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة، يُقرأ كتناقض صارخ بين الصورة التي يروّجها النظام والواقع الذي يعيشه المواطن.

 

سياسيًا، ينتقد محللون محاولة السيسي تقديم التوسع العسكري كشرط للاستقرار الإقليمي، بينما تقمع السلطة المعارضة في الداخل وتغلق المجال العام وتضع الجيش في قلب الاقتصاد، ما يجعل خطاب «السلام والأمن» أداة لتبرير استمرار حكم عسكري مغلق لا مشروع ديمقراطي أو تنموي متوازن. كما يُنظر لربط المعرض بدور مصر في «السلام» على أنه تبييض لدور متردد في ملف غزة، حيث تستمر المجازر والحصار في ظل حرص النظام على علاقاته مع القوى الغربية والاحتلال أكثر من انحيازه لحقوق الفلسطينيين.

 

اقتصاديًا واجتماعيًا، ينتقد خبراء مستقلون توقيت واستعراض إيديكس بينما تتآكل الأجور والمعاشات وترتفع الأسعار وتُخفض أولوية الإنفاق الاجتماعي، معتبرين أن تسويق الصناعة العسكرية كإنجاز يغطي على فشل إدارة ملف الدين والفقر والبطالة. ويرى هؤلاء أن خطاب السيسي يتجاهل سؤالًا بسيطًا: ما جدوى «قوة ردع» لا تنعكس في صحة وتعليم وسكن كريم للمصريين ولا في موقف أكثر صرامة تجاه العدوان على غزة؟

 

أما عن حديث الوزير عن «الرؤية الثاقبة» للسيسي وتحذيراته من «انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة تجر العالم إلى مصير مجهول»، فالمختصون في العلاقات الدولية يقرأونه كجزء من بناء صورة الزعيم صاحب الصوت العاقل وسط الضجيج، في حين أن الدور الفعلي للنظام في ملفات المنطقة، وعلى رأسها غزة، ظل حبيس حسابات أمنية وحدودية ضيقة، وضغوط أميركية وإسرائيلية، أكثر مما كان تعبيراً عن سياسة مستقلة تنحاز بوضوح لحقوق الشعوب. صحيح أن القاهرة استضافت مؤتمر شرم الشيخ للسلام وجولات حوار لوقف إطلاق النار، لكن ذلك لم يترافق مع تغيير جوهري في معادلة الضغط على الاحتلال أو مراجعة اتفاقيات أمنية وتجارية تمنحه أولوية على حساب الموقف الشعبي والإنساني من المجازر في غزة.


تعليقات كثير من المتخصصين في قضايا الأمن الإقليمي تشير إلى أن التحذير من «حرب شاملة» فقد الكثير من صدقيته حين ظل مقترناً بسياسة عملية تسمح باستمرار الحرب على غزة في إطار «إدارة الأزمة» لا حلها، مع الحفاظ على العلاقات الإستراتيجية مع القوى الغربية والاحتلال، والتعامل مع ملف المعابر والحدود بوصفه ورقة تفاوض ومساومة أكثر من كونه التزاماً أخلاقياً تجاه المحاصرين. هنا يتبدى التناقض بين خطاب «الإنسانية» الذي يتحدث عنه الوزير وبين واقع استمرار الحصار والجوع والدمار في القطاع، بل واستغلال الملف أحياناً لصياغة أدوار تفاوضية تعزز شرعية النظام دولياً.

 

من زاوية اقتصادية واجتماعية، يلفت خبراء الاقتصاد الانتباه إلى أن استضافة معرض ضخم للصناعات الدفاعية والترويج لمصر كـ«بوابة للصناعات العسكرية إلى إفريقيا وآسيا» يأتي في وقت يجري فيه خفض الإنفاق الاجتماعي الفعلي، ورفع الدعم عن الطاقة والسلع، وزيادة الضرائب غير المباشرة، وإقرار زيادات محدودة في الأجور والمعاشات لا تواكب التضخم. المفارقة الصارخة أن الدولة التي تفتخر بقدرتها على إنتاج وتطوير أسلحة معقدة لا تستطيع في الوقت نفسه ضمان تعليم وصحة وخدمات أساسية لائقة لغالبية مواطنيها، ما يجعل «الاستثمار في السلام» عنواناً خطابياً يخفي استثماراً حقيقياً في استمرار منظومة عسكرية–اقتصادية مغلقة.

 

على مستوى تحليل المضمون الخطابي، يلاحظ الإعلاميون والنقاد أن كلمة وزير الدفاع أعادت إنتاج الثالوث المعتاد في خطاب السلطة: تمجيد الجيش، شخصنة الحكمة في شخص السيسي، واستخدام مفردات السلام والحرب لتبرير توسيع القدرات العسكرية. التركيز على أن «الدول القوية تُحترم إرادتها وتُصان حدودها» يحمل رسالة ضمنية للداخل والخارج مفادها أن أي تغيير سياسي جوهري أو مراجعة لدور الجيش في الحكم والاقتصاد سيُفهم كتهديد لهذه القوة «الحامية»، وبالتالي يصبح الحفاظ على الوضع القائم هو الخيار الوحيد «العقلاني». بهذا المعنى، تتحول مفردات السلام إلى أداة لإغلاق المجال السياسي، بدلاً من أن تكون مدخلاً لحوار وطني حقيقي.

 

السوشيال ميديا بدورها التقطت هذا التناقض بسرعة. كثير من التعليقات الساخرة والمعارضة ركزت على المقارنة بين صور السيسي وهو يتجول بين منصات السلاح في «إيديكس»، وبين مشاهد الفقر والطوابير وغلاء الأسعار وتراجع الخدمات العامة في الداخل. البعض تساءل: «إذا كانت القوة العسكرية استثماراً في السلام، فأين هذا السلام في حياة المصري الذي لا يجد علاجاً أو سكنًا أو عملاً لائقًا؟» آخرون ربطوا بين حديث الوزير عن «رؤية ثاقبة» للسيسي وبين فشل النظام في توقع أو إدارة أزمات داخلية كأزمة الديون والتضخم ونزيف الجنيه، معتبرين أن من يعجز عن حماية شعبه من الانهيار الاقتصادي لا يمكن أن يُقدَّم كـ«حكيم» المنطقة.

 

وأخيرًا فإن، تصريحات وزير الدفاع وكلمة السيسي  في «إيديكس 2025» تعكس ليس فقط رؤية المؤسسة العسكرية لدورها، بل أيضاً طريقة النظام في تبرير استمرار عسكرة السياسة والاقتصاد تحت غطاء «السلام» و«الحكمة». بالنسبة لكثير من الخبراء والمحللين، لا يمكن فصل هذه التصريحات عن سياق دولة توسّع نفوذ الجيش في كل الملفات، وتستثمر في السلاح والتحالفات الأمنية أكثر مما تستثمر في الإنسان. لذا، فإن «قوة مصر العسكرية» في هذا الخطاب ليست استثماراً في سلام عادل، بقدر ما هي استثمار في بقاء نظام يعيد إنتاج نفسه عبر استعراض القوة، بينما تبقى العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الشعوب، في الداخل وفي غزة والمنطقة، خارج حسابات هذا السلام المعلن.