تعيين وزير الأوقاف السابق محمد مختار جمعة مساعدًا لرئيس حزب «حماة الوطن» لشئون تنمية الوعي المجتمعي ليس تكريمًا عابرًا بقدر ما هو رسالة سياسية ثقيلة: النظام يعيد تدوير أحد أبرز أذرعه الدينية التي استخدمها لسنوات في السيطرة على المنابر وتطويع الخطاب الديني لخدمة السلطة، وينقله الآن إلى منصة حزبية موالية ليواصل نفس الدور بلباس «حزبي» و«مدني». هذه الخطوة تكشف احتقارًا عميقًا لفكرة العمل الحزبي المستقل، وتفضح مفهوم «الوعي» في قاموس السلطة: وعي مطيع، منزوع النقد، مبرمج على الطاعة والخوف.

 

منذ توليه وزارة الأوقاف بعد 2013، تحوّل محمد مختار جمعة إلى واحد من أهم وجوه «تأميم الدين» لصالح النظام. سياساته في توحيد خطبة الجمعة، ومنع غير الخاضعين للوزارة من الخطابة، وإغلاق الزوايا أو تشديد القبضة عليها، لم تكن حربًا على التسييس بقدر ما كانت استبدالًا لخطاب بآخر: قمع أي خطاب ديني معارض أو مستقل، وفتح الطريق فقط أمام خطاب رسمي يُسوّق للرئيس والجيش ويبرر القمع والتنازل عن الحقوق باعتباره «مصلحة شرعية» و«فقه دولة». الآن، بدلاً من محاسبة رجل لعب هذا الدور في خنق المجال الديني، يجري مكافأته بمنصب حزبي رفيع عنوانه «تنمية الوعي»!

 

حزب «حماة الوطن» نفسه ليس حزبًا جماهيريًا خرج من الشارع أو من رحم حركة اجتماعية؛ بل واحد من الأحزاب الأمنية التي وُلدت بعد 3 يوليو لتلعب دور «ديكور تعددي»، وتوفر للنظام كوادر جاهزة للبرلمان والفضائيات من داخل دائرة الولاء المطلق. دخول جمعة إلى قيادة هذا الحزب يعني ببساطة إدخال «الشيخ الموالي» إلى ماكينة صناعة الخطاب الحزبي والإعلامي، بحيث تتزاوج مفردات الدين مع شعارات الوطنية والأمن القومي في حزمة واحدة تجرّم أي معارضة وتقدّس «استقرار» النظام ولو على جثث الفقراء.

 

المنصب الذي أُسند إليه – «مساعد رئيس الحزب لشئون تنمية الوعي المجتمعي» – يكشف جوهر الرؤية الرسمية للمصريين: الشعب كتلة جاهلة تحتاج من «المعلّم» أن يربي وعيها، لا كتلة واعية تراقب وتحاسب وتشارك في القرار. هذا «الوعي» لن يتحدث عن ثروات نُهبت، أو ديون انفجرت، أو استبداد فُرض، بل عن «خطر الشائعات»، و«حرمة الخروج على ولي الأمر»، و«أجر الصبر على الغلاء»، و«نعمة الأمان مقابل الجوع». هنا بالضبط يتجلى أخطر ما في التعيين: تحويل الحزب إلى منبر دعوي–سياسي يُسخّر الدين لقتل آخر ما تبقى من طاقة الغضب والاحتجاج والأمل.

 

سياسياً، التعيين يفضح طبيعة علاقة السلطة بالأحزاب: من يدخل هذه الدائرة ليس صاحب مشروع أو برنامج، بل صاحب ولاء وتجربة في خدمة النظام. من يُبدع في قمع المجال العام، أو في إنتاج خطاب يُخدّر الناس ويُشيطن خصوم النظام، تتم مكافأته بموقع جديد: بالأمس وزير أوقاف يتحكم في المنابر، واليوم قيادي حزبي يشتغل على العقول في قاعات المؤتمرات والندوات والبرلمان ووسائل الإعلام. هي نفس الوظيفة في الجوهر، لكن بساحة أوسع ومساحة حركة أكبر، تحت عنوان خادع: «التوعية».

 

أخلاقيًا، الرسالة التي تصل من هذا القرار صادمة: كل من وضع الدين في خدمة السلطة، وشارك في شرعنة الاستبداد، له مكان محجوز في منظومة الحكم وأحزابه. لا اعتذار عن دور المؤسسة الدينية الرسمية في شيطنة المعارضين، ولا مراجعة للفتاوى والخطابات التي بُني عليها قمعٌ وتشويهٌ وتخوين، بل على العكس، جائزة ترضية ومنصة جديدة. هذا منطق دولة لا ترى في الدين سوى أداة ضبط اجتماعي، وفي رجال الدين سوى موظفين دعائيين يمكن نقلهم من الوزارة إلى الحزب، ومن المنبر إلى منصة انتخابية، دون خجل ولا حدود.

 

أما من زاوية مستقبل «الوعي المجتمعي» نفسه، فوجود شخصية مثل جمعة على هذا الملف يعني مزيدًا من المصادرة ومساحات أوسع للرقابة على العقل والضمير. بدلاً من أن يتولى هذا الملف مثقفون مستقلون أو خبراء تربية وتعليم وباحثون اجتماعيون، يوكل إلى رجل بنى تاريخه الحديث على تعميم خطاب أحادي اللون، حوّل المساجد إلى منصات monologue من طرف واحد، وأقصى أي تنوع فكري أو مذهبي لمصلحة «رسالة رسمية» واحدة. نقله لهذا الموقع الحزبي يعني أن السلطة تريد من الأحزاب أن تكرر نفس التجربة: حزب بخطاب واحد، ورؤية واحدة، وزعيم واحد، ودين واحد يتم تفسيره من نافذة السلطة فقط.

 

وأخيرا فإن ، تعيين محمد مختار جمعة في حزب «حماة الوطن» ليس خبرًا بروتوكوليًا، بل علامة على مسار خطير: تعميق التحالف بين المؤسسة الدينية الرسمية والأحزاب الأمنية لإنتاج «وعي» منزوع السياسة، منزوع الكرامة، يبرر فشل الدولة ويحرم الناس من أبسط حقوقهم في السؤال والاعتراض.

 

هذا ليس وعيًا… هذا برنامج ترويض جماعي، يُراد له أن يحمل ختم الدين وشعار «الوطن»، بينما جوهره الحقيقي هو حماية منظومة النهب والاستبداد من أي يقظة شعبية محتملة.