اليمن اليوم لا يعيش مجرد صراع قبلي متقطع، بل يواجه عملية ذبح بطيء تشرف عليها أبوظبي عبر شبكة من الوكلاء والميليشيات المحلية التي تُقدَّم إعلاميًا كـ"تشكيلات عشائرية"، لتبدو الجريمة كأنها خلاف داخلي لا أكثر. تحت هذا الغطاء، يُعاد تشكيل الخريطة الأمنية والقبلية والاقتصادية لليمن بما يخدم نفوذ الإمارات، على حساب دم اليمنيين ووحدتهم ومستقبل دولتهم.

 

في قلب هذه المأساة، يتحول المواطن اليمني إلى وقود في حرب ليست حربه، وساحة قراه ومدنه إلى مختبر مفتوح لمشاريع الهيمنة الإقليمية.

 

من صراع تقليدي إلى حرب بالوكالة

 

الصدامات القبلية التي كانت تُحل تاريخيًا بالعُرف والوساطة تُدفع اليوم عمدًا إلى مستوى الحروب المفتوحة، عبر تمويل وتسليح منظم للفصائل القبلية المحسوبة على أبوظبي، بحيث يتحول الشيخ المحلي إلى قائد ميليشيا يملك المال والسلاح ويتلقى التعليمات من خارج الحدود.

 

ما كان يمكن أن يبقى خلافًا محدودًا حول أرض أو ثأر يتحول في ظل هذا التدخل إلى معارك تُستخدم فيها أسلحة متوسطة وثقيلة، وتُستباح فيها البيوت وتُحرَق المزارع وتُهجَّر العائلات كاملة. هكذا تُدخِل الإمارات القبيلة في منطق "المقاول الأمني": من يطيع يحصل على التمويل والنفوذ، ومن يرفض يُترَك وحيدًا تحت رحمة خصوم مدججين بالسلاح.

 

تأليب قبلي ممنهج وتمزيق للنسيج الاجتماعي

 

جزء أساسي من مخطط أبوظبي يقوم على إعادة هندسة المشهد الاجتماعي عبر تغذية خطاب الكراهية القبلي والمناطقي، مستخدمة واجهات دينية وإعلامية محلية لتأجيج الحساسيات بين المكوّنات المختلفة. تُستحضَر سرديات قديمة عن "تفوق" قبيلة على أخرى، أو "حق تاريخي" في أرض أو نفوذ، ثم تُضخ الأموال والسلاح في الاتجاه الذي يضمن انفجار هذه التوترات في اللحظة المناسبة.

 

بهذه الطريقة، لا تعود القبائل إطار حماية اجتماعية كما كانت في تاريخ اليمن، بل أدوات متناحرة تُستعمل لتفكيك أي هوية وطنية جامعة، وترسيخ شعور عام بأن لا دولة ولا قانون، بل فقط ولاءات متشظية تتنافس على فتات تقدمه أبوظبي.

 

حرب على الجغرافيا والموارد قبل أن تكون على الناس

 

في ظل اشتعال هذه الصراعات، تُترك الأراضي الزراعية بلا حرّاس، وتتوقف المواسم، ويُهجَّر سكان قرى كاملة ليصبحوا أرقامًا في سجلات النزوح، بينما تُفتح الأبواب أمام شبكات تهريب واستيلاء على الأرض والموارد ترتبط بمشاريع اقتصادية إماراتية مباشرة أو عبر واجهات محلية.

 

الأرض التي تُفرَّغ من أهلها اليوم تصبح غدًا منطقة نفوذ اقتصادي: ممر لخط تجاري، أو موقعًا لقاعدة، أو بوابة للسيطرة على ميناء، أو مجالًا لمشاريع استثمارية لا يرى اليمنيون من عائدها شيئًا. ما يجري إذًا ليس فوضى عمياء، بل "حرب جغرافيا" مقصودة، يُدفَع فيها السكان نحو الرحيل القسري لتسهيل إعادة توزيع النفوذ على خريطة تُرسَم في أبوظبي لا في صنعاء أو عدن.

 

شرعنة الفوضى: من “وسيط سلام” إلى مهندس خراب

 

خارج اليمن، تحاول الإمارات تقديم نفسها كوسيط سلام وفاعل إنساني، بينما هي في واقع الميدان طرف أصيل في تغذية الصراعات وتمديد أمدها. يتم منح بعض الميليشيات والكيانات المدعومة إماراتيًا غطاءً سياسيًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا، فيُباع للعالم خطاب "إعادة ترتيب قبلي أو مناطقي" أو "ضبط الأمن المحلي"، بينما الحقيقة أن هذه الترتيبات تؤسس لخرائط تقسيم طويلة الأمد.

 

الأخطر من ذلك أن وصف ما يحدث بأنه "نزاعات داخلية" يوفّر حصانة مجانية لأبوظبي، إذ يختزل المشهد في صورة يمنيين يقتتلون مع بعضهم، ويُخفي اليد التي توزع السلاح وترسم خطوط الاشتباك وتحدد لمن تدفع، وضد من تحرّض.

 

اليمن بين فكَّي كماشة: فوضى مصنَّعة وبؤس متصاعد

 

اليمني اليوم عالق بين حرب داخلية مشتعلة تُقدَّم كأنها قدر قبلي، وحرب خارجية تديرها الإمارات بوصفها راعيًا للفوضى ومهندسًا لتوزيع القوى على الأرض. الأطفال بلا مدارس، والشباب بلا عمل، والأسر بلا مأوى، والقرى تتحول تدريجيًا إلى أطلال تذكّر بأن أحدًا قرر أن هذه الرقعة يجب أن تبقى ساحة صراع مفتوح لا دولة لها ولا استقرار.

 

في هذه المعادلة لا توجد "قضية عادلة" ولا "ثورة محلية مستقلة"، بل شبكة مصالح إقليمية تستخدم أجساد اليمنيين وذاكرتهم وهويتهم لبناء نفوذ اقتصادي وأمني يمتد لعقود.

 

لماذا يجب تسمية الجريمة باسمها؟

 

الحديث عن "صراع قبلي" دون ذكر الدور الإماراتي هو مشاركة ضمنية في التغطية على الجريمة، وخيانة لدماء الضحايا الذين سقطوا بسلاح ممول من الخارج وتحت شعارات موهومة عن "حماية القبيلة" أو "توازن القوى". أبوظبي لا "تراقب" ما يجري في اليمن، بل تشارك في صناعته: تموّل، تسلّح، تحرّض، تشرعن سياسيًا، وتستثمر اقتصاديًا في الفوضى التي خلقتها.

 

لهذا يجب أن يُقال بوضوح إن ما يحدث ليس حادثًا عارضًا في تاريخ مجتمع قبلي، بل إجرام ممنهج يهدف إلى تغيير هوية اليمن وملكية أرضه وخريطة نفوذه، وتحويله إلى كيان ضعيف ممزق يسهل التحكم فيه من الخارج. اليمن يحتاج اليوم إلى قطع هذا الشريان الخارجي الذي يغذي الدم، قبل أي وساطة أو تسوية؛ فمن دون وقف تدفق المال والسلاح من أبوظبي، ستبقى كل دعوة للسلام مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار بانتظار جولة جديدة من الذبح الداخلي برعاية إماراتية.