عبد الناصر سلامة

رئيس تحرير صحيفة الأهرام الأسبق

 

منذ أن تولى الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي مقاليد الحكم، عام 2014، وهو يردد أنه تسلم بلدًا مهلهلًا، بل لم تكن بلدًا من الأساس، وكان آخر ما قاله قبل عدة أيام، خلال لقائه بقادة وضباط وطلاب الشرطة، إنه تسلم بلدًا على الأرض، على حد قوله: (تعليم على الأرض، قيم على الأرض، فن على الأرض، صناعة على الأرض، اقتصاد على الأرض، وعي على الأرض)، إلى آخره، في إشارة إلى أنه بدأ العمل من الصفر، وهي التصريحات التي دائمًا ما تثير حفيظة أنصار كل الأنظمة السابقة، من ناصريين ينتمون إلى حقبة الرئيس جمال عبد الناصر، وساداتيين يؤمنون بسياسات الرئيس أنور السادات، كما أنصار الرئيس حسني مبارك، وبالتأكيد أنصار جماعة الإخوان المسلمين، الذين يتوقفون بالنقد والسخرية أمام كل تصريحات السيسي، حتى لو كانت إيجابية.

 

على النقيض تمامًا، يرى الرأي العام في مصر، في مختلف طوائفه، أن البلاد قبل مئة عام، وتحديدًا منذ ما قبل ثورة أو انقلاب الضباط عام 1952، كانت أفضل في كل الوجوه، في السياسة الداخلية، حيث كانت الأحزاب السياسية تعيش أزهى عصورها، والممارسة البرلمانية شاهدًا، وفي السياسة الخارجية، حيث كانت لمصر اليد الطولي في المنطقة، عربيًا وأفريقيا وشرق أوسطيًا، واستمر الوضع كذلك حتى ستينيات القرن الماضي، وتحديدًا حتى هزيمة 1967، واقتصاديًا حيث كان الاحتياطي الاستراتيجي من الذهب والعملات من الأعلى عالميًا، كما كانت قيمة الجنيه، تساوي خمسة دولارات أمريكية، وأما عن القوة الناعمة، ممثلة في الثقافة والفن والإعلام والتعليم بشكل عام، فحدث ولا حرج، ناهيك من الصناعات، ممثلة في الحديد والصلب والسيارات والغزل والنسيج وغيرها، وحتى الصناعات العسكرية، في وجود برنامج للفضاء، وآخر نووي، إلى غير ذلك من كثير.

 

الآن، في الألفية الثالثة، تتحدث مصر، على المستوى الرسمي، عن إنشاء أطول برج في أفريقيا، أكبر مسجد في المنطقة، أضخم كاتدرائية في الشرق، أفخم ساعة في العاصمة الجديدة، أطول سارية علم، أوسع قصور رئاسية، إلى غير ذلك من متغيرات غريبة غير منتجة، توقفت معها عمليات تعيين الخريجين، أو العاطلين بشكل عام، وهي المهمة التي كانت في السابق تقع على عاتق السلطة التنفيذية في الدرجة الأولى، باعتبار أن تأمين فرص عمل للشباب أولوية ذات صلة وثيقة باستقرار البلاد والعباد، كما تبدلت معها مسارات التعليم، التي كانت في مجملها مجانية في كل المراحل، والآن أصبح التعليم لمن استطاع إليه سبيلا، كما المنظومة الصحية، التي كانت مثار فخر الأجيال المختلفة، أما الآن فقد هرب أكثر من 50% من الأطباء للعمل في الخارج، نتيجة عدم وجود أجور مجزية أو إمكانيات عملية، إلى غير ذلك من كثير.

 

في كل دول العالم، المتقدم منه والنامي، في أوروبا، كما آسيا، كما أفريقيا، أصبح التطور والتقدم سمة عامة، وتكفي الإشارة هنا إلى رواندا التي أصبحت تتصدر القارة الأفريقية في التنمية، وعاصمتها كيجالي، التي أصبحت مضرب الأمثال في النظافة والجمال، شتان بين معاناة الماضي ورحابة الحاضر في كل دول العالم، وحتى خطط المستقبل المعلنة، إلا في مصر، سوف نجد أن كل المقارنات لصالح الماضي، ولن نخوض هنا في عصور الفراعنة قبل آلاف السنين، وما وصلوا إليه من حضارة وتطور في شتى المجالات.

 

وقد كان كلام السيسي نفسه أهم توثيق لما تعيشه مصر الآن، ذلك أن الدراما والتأليف والأغنية والفيلم والمسرحية، أصبحت كلها من الماضي، الدولار الأمريكي أصبح يساوي نحو 50 جنيها مصريًا، الديون الخارجية هي الأعلى في التاريخ، بما يزيد على 160 مليار دولار، الديون الداخلية هي الأعلى أيضًا بما يزيد على عشرة تريليونات جنيه، ثم يأتي العجز في الموازنة العامة، التضخم، البطالة، الغلاء، الجريمة، البلطجة، كلاب الشوارع، تراجع القيم، تراجع الوعي، تراجع الاهتمام بالشأن السياسي، زيادة كبيرة في نسبة العنوسة، اتجاه الشباب إلى الإلحاد، اختفاء الطبقة الوسطى، تزايد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، إلى غير ذلك من مظاهر سلبية كثيرة، لم يكن لمعظمها وجود حتى في الماضي القريب.

 

المتابع للحالة المصرية، سوف يكتشف أمرًا مثيرًا في المزاج الشعبي المصري، حيث الحنين إلى الماضي في كل الأزمنة والمراحل السياسية، الحنين للعصور الفرعونية، الحنين للحقبة الملكية، حتى بين من لم يعاصروها، الحنين للحقب الناصرية والساداتية والمباركية، بكل مساوئ وعثرات هذه أو تلك، إلا أن الشارع بشكل عام، لا يجد في الحاضر أي إيجابية من أي نوع، بل لم يعد يعول على المستقبل، وهو ما جعل الهجرة إلى الخارج حلم كل شاب وفتاة، مع ما تحمله من مغامرات ومخاطر الرحلة نفسها، أو حتى معاناة وأزمات الاغتراب.

 

ولا يمكن بالطبع إلقاء اللوم على الشباب، أو على الأسرة ككل، مع الحديث عن ارتفاع معدلات الانتحار، ارتفاع معدلات الطلاق، ارتفاع معدلات العنف الأسري، نتيجة غلاء المعيشة، ارتفاع نسبة الرشاوى والمحسوبيات، على خلفية ضنك الحياة، تزايد الاهتمام الرسمي برفاهية طوائف معينة في المجتمع على حساب أخرى، لما لها من تأثير، عسكري أو قضائي أو شرطي أو إعلامي، احتواء السلطة لعناصر مسجلة خطرًا على المجتمع، لأسباب مريبة، رغم الاستنكار الشعبي الكبير لمثل تلك الممارسات.

 

تصريحات السيسي، قوبلت بانتقادات واسعة على الـ»سوشيال ميديا» بالطبع، في غياب الإعلام الذي كان يمكن أن ينتقد، وقد تركزت الانتقادات في معظمها حول فترة حكمه التي تجاوزت أحد عشر عامًا، وعلى الرغم من ذلك، فإن أي من المجالات التي ذكرها لم تشهد أي تطور، بل على العكس ازدادت سوءًا، نتيجة اهتمامه بأولويات مختلفة تمامًا، تتمثل في إنشاءات إسمنتية، على حساب الاهتمام بالإنسان، في الوقت الذي لا يتردد فيه عن بيع أصول وأراضي وموانئ ومستشفيات وسواحل الدولة المصرية للأجانب، خصوصًا دولة الإمارات العربية، رغم خطورة مثل تلك الاستثمارات تحديدًا على الأمن القومي المصري، لأسباب معلومة.

 

كما تتزامن تصريحات السيسي، مع انتخابات برلمانية، تشهدها المحافظات المختلفة هذه الأيام، هي الأسوأ في تاريخ البلاد، على الرغم من توجيهه شخصيًا للقضاء، بإعادة النظر في مرحلتها الأولى، بما يتوافق مع تحقيق العدالة بين المرشحين، وهو ما أدى إلى إعادة الانتخابات في 19 دائرة شابها التزوير، إلا أن حقيقة الأمر توضح أن ما جرى من السيسي نفسه، يعد قفزًا على القضية الأساسية، ممثلة في طريقة الانتخابات، وأسلوب اختيار المرشحين ونوعيتهم، خصوصًا بالقوائم المطلقة، التي تمثل نموذجًا صارخًا للتحايل والتدليس، ما جعل مصر تتذيل قوائم التقييم الدولية في الشفافية وحقوق الإنسان والعدالة والممارسة السياسية، إلى غير ذلك من كثير.

 

وإذا وضعنا في الاعتبار، أن الحالة السياسية في مصر، تعيش مرحلة ردة غير طبيعية، فإن أهم مؤشراتها، أن الشعب فقد حقوقًا اكتسبها خلال العقود السابقة، سواء في الماضي البعيد، حيث العصر الملكي، أو الماضي القريب، حيث حكم الرئيس مبارك، أو حتى الإخوان المسلمين، ذلك أن الانتخابات كانت تجري بالنظام الفردي، من خلال الاختيار الحر المباشر بين المتنافسين، والأهم من ذلك أنه لم يعد متاحًا انتقاد هذا الوضع أو ذاك، وسط حالة من الترصد والرعب، في وجود عشرات الآلاف بالسجون والمعتقلات، في ظروف لم تكن تخطر على بال المتشائمين، في القرن الـ21.

 

المؤكد، أن استمرار سياسات القمع والكبت من جهة، وبيع الأصول والاستدانة من جهة أخرى، بمثابة دلالة بالغة على أنه لا توجد إرادة لدى الإدارة المصرية الحالية، للخروج من هذا المستنقع، الذي ترى فيه سبيلًا وحيدًا لاستمراريتها، ما يعني أنها لم تقرأ التاريخ أبدًا، وهو ما يجعل البلاد في مهب الريح، لا أحد يستطيع التكهن بنتائج ذلك الذي يجري، على الرغم من أن الرأي العام في معظمه لا يميل إلى الفوضى أو العنف، ويرفض الاحتجاج والتمرد، إلا أن ثالوث الفقر والجهل والمرض، يمكنه القفز على كل النظريات والتوقعات، بما لا يبقي ولا يذر، وهو ما يرصده المراقبون، وتعززه مراكز الدراسات، في الوقت الذي تتنمر فيه قوى خارجية بوضوح، ما بين إقليمية شقيقة، ودولية لها مآربها، خصوصًا العدو التاريخي الصهيوني، في وجود طابور خامس داخلي متنوع الوجهات.. فهل تستيقظ القيادة السياسية في مصر، لخلق حاضر أكثر جذبًا وإشراقًا، أم إنه قد فات الأوان؟!