في ظل حكم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، تحولت السجون المصرية إلى مقابر بطيئة، يُدفن فيها المعارضون وهم أحياء. لم تعد الانتهاكات داخل المعتقلات مجرد تجاوزات فردية، بل صارت سياسة دولة ممنهجة، تتعامل مع المرض كوسيلة للقمع، والدواء كرفاهية لا يستحقها "أعداء النظام".
فمن تكدّس الزنازين، وغياب التهوية، وحرمان من الدواء، والتعذيب البارد بالإهمال الطبي، إلى منع الزيارات والضغوط على العائلات... كل شيء يؤكد أن الموت داخل السجن لم يعد استثناء، بل قاعدة يفرضها نظام اختار القتل البطيء بديلاً للرصاصة المباشرة.
محمد جمعة: مات بالإعدام البطيء... لا بالمشنقة
في أحدث فصول الجرائم داخل السجون، وثّق مركز الشهاب لحقوق الإنسان وفاة المعتقل محمد جمعة داخل مجمع سجون وادي النطرون، بعد 13 عامًا من الاحتجاز، كان آخرها وهو محكوم بالإعدام في قضية "قسم العريش".
لم يكن الإعدام هو ما قتله، بل الإهمال الطبي المتعمد، وتركه يعاني من آلام صدرية دون علاج حقيقي، في جريمة جديدة تفضح الوجه الدموي لنظام يدّعي العدالة ويقتل في صمت.
سجن المنيا: مقبرة جماعية للمرضى
الشبكة المصرية لحقوق الإنسان وثقت في سجن المنيا وحده وفاة ثلاثة محتجزين خلال شهر واحد فقط بسبب حرمانهم من العلاج. لم تكن صدفة، بل نتيجة قرارات أمنية تقضي بعدم السماح للمرضى بتلقي الدواء، في انتهاك فج لحقهم في الحياة.
السجن تحوّل إلى كابوس يومي للمرضى، حيث أصبح الذهاب إلى المستشفى ترفًا مرفوضًا، والإفراج الصحي حلمًا محظورًا، بينما تقف أجهزة الدولة متفرجة على الموت وهو يزحف بهدوء.
أحمد "جزيرة": سحقوه في قسم إمبابة
في أقسام الشرطة، الوضع لا يقل دموية. الناشط أحمد مصطفى (35 عامًا)، المعروف بـ"أحمد جزيرة"، توفي بعد ثلاثة أسابيع من احتجازه داخل قسم إمبابة، حيث تكدّس أكثر من 20 معتقلاً في زنزانة بالكاد تسع أربعة.
حرمان من الطعام، لا تهوية، لا رعاية، وضغوط على الأسرة لتوقيع شهادة وفاة كاذبة تُرجع الوفاة إلى "هبوط في الدورة الدموية"، رغم الشهادات التي تؤكد أن القسم تركه ليموت عمداً.
مرضى السرطان.. يُقتلون تحت مسمى "الإجراءات"
أحمد محمود محمد سعيد، معتقل مصاب بسرطان الغدة في مراحله المتقدمة، تُوفي داخل سجن "10 ونص" بعد رفض مستمر لنقله للعلاج الكيماوي. اكتفت الإدارة ببعض "الإجراءات الشكلية" وأعادته للسجن، وكأن العلاج ترف لا يُمنح لمن يرفض الركوع للنظام.
هل يمكن اعتبار ذلك تقصيرًا؟ لا. إنها سياسة قتل مُمنهجة تُنَفّذ بأيدٍ بيضاء لا تحمل السلاح، بل ترفع تقارير طبية مزورة لتبرير الموت البطيء.
60 ألف معتقل.. وجريمة بلا محاسبة
وفقًا لتقرير "صحفيات بلا قيود"، يقبع أكثر من 60,000 معتقل سياسي داخل السجون المصرية، من بينهم نساء وأطفال وصحفيون. ومنذ الانقلاب، تم توثيق 1,160 حالة وفاة داخل السجون، 74% منها بسبب إهمال طبي متعمد.
في عام 2024 وحده، توفي 50 معتقلاً سياسيًا داخل السجون بسبب الإهمال الطبي وظروف الاحتجاز غير الإنسانية. الأرقام تتحدث عن نفسها: دولة لا تقتل بمعسكرات الإعدام، بل تحوّل كل زنزانة إلى مشرحة معلقة على بوابة الانتظار.
الإهمال الطبي كأداة قمع.. والعدالة جثة هامدة
ما يحدث في السجون ليس خطأ إداريًا، بل قرار سياسي. النظام الذي لا يجرؤ على تنفيذ الإعدام علنًا، ينفذه طبيًا من خلف الأسوار، دون أوراق ولا قضاء ولا إعلام.
الحرمان من العلاج هو وسيلة ضغط، وأداة للانتقام، وطريقة لتصفية المعارضين دون ضجيج دولي. أما القضاء، فصامت، وأما النيابة، فغائبة، وأما الإعلام، فهو منشغل بالترويج لمشاريع وهمية لا تطعم سجينًا ولا تنقذ مريضًا.
أين التحقيق؟ أين العدالة؟ أين الدولة؟
رغم كل ما تم توثيقه من جرائم، لم تُفتح تحقيقات مستقلة واحدة، ولم يُحاسب أي مسؤول، ولم يُفعّل الإفراج الصحي كما ينص عليه القانون المصري نفسه.
الدولة تلتزم الصمت، كأنها شريكة في الجريمة، لا حامية للعدالة. حتى الموتى، لا يُتركون ليرقدوا بسلام، إذ تُجبر أسرهم على توقيع تقارير وفاة مزورة، أو يُحرَمون من تسلم الجثامين.
لا إصلاح بدون مساءلة.. ولا حرية مع القتل البطيء
ما يحدث في سجون السيسي ليس شأناً داخليًا، بل جريمة سياسية متكاملة ضد الإنسانية. الصمت الدولي عنها تواطؤ، والتبرير خيانة لحقوق الإنسان.
إذا أرادت القوى الحقوقية والضمير العالمي إنقاذ ما تبقى من إنسانية في مصر، فلا بد من:
- فتح تحقيقات دولية شفافة
- محاسبة كل من تواطأ في قتل المعتقلين
- تفعيل الإفراج الصحي العاجل
- وقف سياسة التدوير والتعذيب الطبي
وأخيرا فالموتى داخل سجون السيسي ينادون من وراء القضبان: لسنا أرقامًا، نحن أرواحًا قُتلت عمدًا، في دولة لا تعرف القانون، ولا العدالة، ولا الرحمة. وما لم يتحرك العالم، فإن المقابر ستزداد، والصمت سيقتل البقية الباقية من الإنسانية داخل الزنازين.

