بينما يحتفي الإعلام الرسمي بافتتاح المتحف المصري الكبير باعتباره "أيقونة الحضارة المصرية"، يتحوّل هذا الصرح العملاق إلى نموذج جديد للتمييز الطبقي والحرمان الثقافي الممنهج.
فمنذ أن فتح أبوابه للجمهور في 4 نوفمبر الجاري، شهد المتحف ازدحامًا مصطنعا من الزوار الذي اغلبهم اتى اما عن طريق الرحلات المدرسية او رحلات وزارة الشباب والرياضة، أما الزوار الحقيقيون الذين ظنوا أنهم أخيرًا سيتمكنون من مشاهدة ما أنجزته أيدي أجدادهم… فإذا بهم يُمنَعون ويُقصون لصالح السياحة والدولار، وتُغلق أمامهم نوافذ الحجز.
اليوم، متحف المصريين مغلق أمام المصريين. الدخول فقط لـ"من يدفع أكثر"… أما أصحاب الأرض؟ فعليهم الانتظار، أو دفع مقابل لا يستطيع كثيرون تحمّله.
تمييز فجّ: 80% للأجانب.. و20% فقط لأبناء البلد
كشفت إدارة المتحف عن تخصيص 80% من القدرة اليومية الاستيعابية للزوار للأجانب والعرب والمقيمين، فيما يُسمح فقط بنسبة 20% للمصريين، بمن فيهم طلاب المدارس والجامعات والمواطنون العاديون.
لم تُطرح هذه النسبة على الرأي العام للنقاش، ولم تُعرض في بيان رسمي شفاف، بل سُرّبت عبر تصريحات مبهمة لعضو في إدارة المتحف قال بصراحة:
"هدفنا زيادة الإيرادات من فارق سعر التذاكر، والمصريون يشغلون أماكن يمكن أن تُباع بسعر أعلى للأجانب".
بكلمات أخرى: المتحف ليس للمصريين، بل لأصحاب العملات الأجنبية، أما الفقراء الذين حلموا بزيارة المتحف الكبير، فعليهم الاكتفاء بمشاهدته في الأخبار أو من خلف الأسوار.
إغلاق إلكتروني متعمّد: حجز التذاكر محجوب عن المصريين
منذ افتتاح المتحف، لم يتمكن المصريون من حجز تذاكر عبر الموقع الرسمي.
الخدمة الإلكترونية مفعّلة فقط للأجانب والمقيمين، في تجاهل فجّ لشعب يفترض أنه المالك الشرعي لهذه الحضارة.
حتى التصريحات الحكومية التي قالت إن التذاكر ستُتاح للمصريين "بداية الشهر المقبل" جاءت مبهمة، بلا تاريخ محدد، ما فُسر على أنه مراوغة معتادة لامتصاص الغضب، لا التزام حقيقي.
التمييز بالملابس.. والتنمر الطبقي داخل المتحف
الصدمة لم تتوقف عند الحجب الإلكتروني، بل امتدت إلى سلوكيات داخل المتحف نفسه، حيث وثقت شهادات عديدة تنمّرًا على فئات بعينها من المصريين بسبب ملابسهم البسيطة، في محاولة لتصوير المكان وكأنه "نخبوي" أو مخصص للسياح فقط، لا لعامة الشعب.
هذا التمييز الطبقي داخل مرفق ثقافي عام يُفترض أن يُعبّر عن هوية الأمة، يعكس عقلية السلطة التي تحوّل كل ما هو وطني إلى مشروع استثماري يُقاس بالعائد، لا بالحق.
منجز حضاري أم متجر عملة صعبة؟
من المفترض أن المتحف المصري الكبير صرح ثقافي ووطني يعرض تاريخ مصر القديم، وهو مشروع شارك في بنائه مهندسون وعمال ومصممون مصريون.
لكن حكومة الانقلاب قررت أن تحول هذا المنجز إلى متجر سياحي مغلق على المصريين، لا يُفتح إلا لمن يحمل جواز سفر أجنبي.
وفي الوقت الذي ترتفع فيه أسعار التذاكر على المصريين إلى 200 جنيه، وتصل للأجانب إلى 1450 جنيهًا، يبقى الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة محرومين من رؤية حضارتهم، وكأنهم غرباء على أرضهم.
المتحف الكبير.. رمز جديد لجمهورية التمييز والجباية
ما يحدث في المتحف المصري الكبير ليس مجرد خلل إداري، بل سياسة دولة كاملة تقوم على استبعاد المواطن من أي مساحة للثقافة أو الفخر الوطني، وتحويل كل شيء إلى سلعة خاضعة لسعر الدولار.
من المتاحف إلى الجامعات إلى الحدائق العامة، تكرّس الدولة عقلية الخصخصة والتمييز والحرمان، وتحوّل المصريين إلى غرباء في وطنهم، لا يُسمح لهم إلا بدور المتفرج… إن سمح لهم أحد بذلك.
المتحف الذي شُيّد ليكون فخرًا قوميًا، أصبح شاهدًا جديدًا على حكومة تبيع الحضارة لمن يدفع، وتغلق الأبواب في وجه أصحاب الأرض.

