أطلق الكاتب والباحث المصري عمار علي حسن نداءً مؤثراً، متسائلاً: "ليت من يتولى اليوم الشرح للضيوف الأجانب المتجولين في المتحف الكبير، أن يأتي على ذكر وصايا ملوك مصر القديمة لولاة عهودهم عن كيفية إقامة الحكم على العدل والاستقامة، وبذل كل مستطاع في سبيل حماية البلاد، وكفاية أهلها، والاستعداد لأي تضحية في سبيل ضمان تدفق مياه النيل العظيم." هذا النداء ليس مجرد استحضار للتاريخ، بل هو دعوة صريحة لاستخدام الوصايا الفرعونية كمعيار نقدي للحكم في العصر الحديث، وكشف التناقض بين عظمة الماضي وواقع الحاضر.

 

 

الوصايا الخمس: دستور الحكم الصالح

 

تعتبر "وصايا أمنمحات" لابنه سنوسرت، و"تعاليم بتاح حتب"، وغيرها من النصوص الأدبية القديمة، بمثابة دساتير أخلاقية وسياسية للحكم في مصر القديمة. يمكن تلخيص جوهر هذه الوصايا، التي أشار إليها عمار علي حسن، في خمسة مبادئ أساسية تشكل أساس الحكم الصالح:

 

1.العدل والاستقامة (ماعت): كان المبدأ الأسمى للحكم هو إقامة "ماعت"، أي العدل والنظام الكوني. كان الفرعون هو الضامن لهذا النظام، ويجب عليه أن يحكم بإنصاف، وأن يبتعد عن الظلم، وأن يكون سلوكه مستقيماً.

 

2.حماية البلاد: كان واجب الحاكم الأول هو حماية حدود مصر من الأخطار الخارجية، وبذل كل غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عن أمن الدولة وسيادتها.

 

3.كفاية الأهل: تعني ضمان الرخاء الاقتصادي والاجتماعي للشعب، وتوفير احتياجاتهم الأساسية، والعمل على سد رمق الفقراء، وهو ما يتجسد في مبدأ "أنا لم أخطف لقمة من فم طفل" من تعاليم ماعت.

 

4.ضمان تدفق مياه النيل العظيم: كان النيل هو شريان الحياة لمصر، وضمان تدفقه وحمايته من أي تهديد خارجي أو سوء إدارة داخلي هو واجب مقدس لا يقبل التهاون أو التضحية.

 

5.الاستعداد للتضحية: أن يكون الحاكم مستعداً لبذل كل مستطاع، بما في ذلك التضحية الشخصية، في سبيل هذه المبادئ.

 

التناقض الصارخ: بين الوصية والتطبيق

 

إن الدعوة إلى تذكير الضيوف الأجانب بهذه الوصايا في المتحف الكبير هي في حقيقتها تذكير لولاة الأمر الحاليين بأن الحكم ليس مجرد سلطة، بل هو مسؤولية أخلاقية وتاريخية.

 

العدل والاستقامة: في الوقت الذي نادت فيه الوصايا بالعدل، يواجه الواقع المعاصر انتقادات واسعة حول غياب العدالة الاجتماعية، وتفشي الفساد، وتكميم الأفواه، مما يضع مبدأ "ماعت" على المحك.

 

حماية البلاد وكفاية الأهل: إن حماية البلاد لا تقتصر على الحدود العسكرية، بل تشمل حماية أصولها الاقتصادية وثرواتها. يرى النقاد أن سياسات الاقتراض وبيع الأصول تضعف السيادة الاقتصادية، وتتناقض مع مبدأ "كفاية الأهل" الذي يفرض على الحاكم ضمان الاكتفاء الذاتي والرخاء لشعبه.

 

ضمان تدفق مياه النيل: تظل قضية النيل هي الهاجس الأكبر الذي يربط الماضي بالحاضر. إن وصية الفراعنة بضمان تدفق النيل العظيم، والاستعداد لأي تضحية في سبيله، تكتسب أهمية قصوى في ظل التحديات الراهنة المتعلقة بأمن مصر المائي، وتصبح معياراً حاسماً لتقييم مدى التزام الحاكم بعهده التاريخي.

 

إحياء الروح لا الحجر

 

إن المتحف الكبير، بصفته صرحاً لحضارة عظيمة، يجب ألا يكون مجرد عرض للحجر والآثار، بل يجب أن يكون منارة للروح والفلسفة التي قامت عليها هذه الحضارة. إن وصايا ملوك مصر القديمة هي إرث أخلاقي وسياسي لا يزال صالحاً للتطبيق، بل هو ضرورة ملحة. إن تذكير الضيوف الأجانب بهذه الوصايا هو في الحقيقة تذكير للعالم بأن مصر لم تكن يوماً دولة تقوم على القوة الغاشمة، بل على دستور أخلاقي يضع العدل، وكفاية الأهل، وحماية النيل، في صدارة أولويات الحكم. إن إحياء هذه الوصايا هو الطريق الوحيد لاستعادة التوازن بين عظمة التاريخ وواقع الحاضر.