في مشهد يعكس قساوة السياسات الحكومية وتآكل الحس الإنساني في مصر، فجّر الأستاذ الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة، تصريحًا صادمًا حين قال إن فرض رسوم على تصاريح الدفن هو قرار غير إنساني ومجحف، يمس أبسط حقوق الإنسان بعد الموت.
فبينما كانت هذه التصاريح تُمنح مجانًا قبل سنوات قليلة، أصبحت اليوم بـ350 جنيهًا، ما أثار استياء المواطنين وغضب الشارع، خاصة بين الفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم، فكيف بهم يدفعون “ضريبة دفن” لذويهم؟
هذا القرار، كما يرى نور الدين، يكشف تحجر قلب الحكومة، وتحولها من "تاجر خائب" إلى "تاجر جشع متحجر القلب" في بلد يعيش أكثر من ثلثي سكانه تحت خط الفقر.
من المجانية إلى الجباية... رحلة دفن الرحمة
يُذكّر الدكتور نور الدين بأن تصريح الدفن كان مجانيًا حتى خمس سنوات مضت، في زمن كان لا يزال فيه بعض الوعي الإنساني يحكم القرارات الإدارية. ثم قررت الحكومة فرض رسوم قدرها 50 جنيهًا، فقبلها المواطن على مضض، مبررًا لنفسه أن الدولة بحاجة إلى تمويل إدارتها الصحية.
لكن ما حدث لاحقًا تجاوز حدود المعقول — إذ قفزت الرسوم اليوم إلى 350 جنيهًا دون مبرر أو دراسة، في خطوة وصفها نور الدين بأنها “دليل على انقضاء زمن الإنسانية”، وأن الحكومة تتعامل مع المواطن حتى في موته كفرصة لتحصيل المال.
تساءل الرجل بمرارة: “هل الفقراء لا يموتون؟ هل الموت أصبح رفاهية للأغنياء وحدهم؟”
ففي بلد تتسع فيه رقعة العشوائيات ويعيش الملايين في ظروف غير إنسانية، من المؤلم أن يتحول الدفن نفسه إلى سلعة، وأن يُحاسب المواطن حتى بعد أن يفارق الحياة.
غياب الرحمة في مكاتب الصحة
في موقف يكشف عمق الأزمة، روى الدكتور نادر نور الدين تفاصيل حوار دار بينه وبين موظف في أحد مكاتب الصحة، حين سأله: “ماذا لو مات متسول أو إنسان بلا مأوى ووجده الناس ميتًا على الرصيف، فهل تصرفون له تصريح دفن مجاني؟”
وجاء الرد صادمًا: “ليس لدينا تعليمات بحالات إنسانية لصرف تصريح الدفن مجانًا.”
توقف نور الدين أمام الإجابة الغليظة التي تعكس غياب أي تعليمات للرحمة أو الحس الإنساني، وقال في نبرة غاضبة: “هل نتركه يتعفن وينقل الأوبئة؟ أم نلقيه في القمامة؟”
فكان جواب الموظف البارد: “إذا كانت الإنسانية تلح عليكم، فاجمعوا له المبلغ بينكم!”
ردّ عليه قائلاً: “نحن سندفع من أموالنا القليلة، لكن الحكومة أيضًا تصرف من أموالنا نحن — أموال دافعي الضرائب، فهي لا تعمل مثلنا لجلب المال، بل عليها أن تقوم بدورها تجاه الفقراء والمحتاجين.”
هنا تتجلى المفارقة الكبرى: دولة تفرض الضرائب على المواطنين لتسيير خدماتها، ثم ترفض أداء أبسط واجب إنساني تجاههم بعد الموت.
من مقابر الصدقة إلى مقابر اللامبالاة
ذكّر الدكتور نور الدين بماضٍ لم يكن بعيدًا، حين كانت الحكومات المصرية في “زمن الإنسانية” تُنشئ ما يُعرف بـ مقابر الصدقة، لدفن الفقراء والمشردين بلا مقابل.
كانت تلك المقابر رمزًا للتكافل الاجتماعي، ولحكومة تعرف أن كرامة الميت من كرامة الأحياء. أما اليوم، فقد اختفت تلك القيم تمامًا، وبات من لا يملك ثمن تصريح الدفن مهددًا بأن يُعامل كـ “عبء إداري” لا إنساني.
قال نور الدين بمرارة:
“الفقراء والفقراء جدًا يموتون أيضًا، وليس الأغنياء فقط. هؤلاء الذين يعيشون في العشوائيات أو بين الأرصفة، أليس لهم حق في دفن كريم؟”
إنها كلمات تكشف انهيار مبدأ العدالة الاجتماعية حتى في الموت، فالحكومة التي تُنفق المليارات على المشروعات الفارهة، لا تستطيع — أو لا تريد — إعفاء فقير من رسوم دفنه.
الإنسانية آخر ما دفنته الحكومة
يختم الدكتور نادر نور الدين تصريحه بدعوة واضحة وصريحة: “يمكن أن نقبل رسوماً على شهادة الوفاة، ولكن ليس أبداً على تصريح الدفن. عودوا إلى الإنسانية، فهذا أفضل لكم وللبلد.”
https://www.facebook.com/nadr.nwr.aldyn.619593/posts/3208546912666667?ref=embed_post
كلماته ليست مجرد احتجاج فردي، بل صرخة ضمير في وجه حكومة تعامل الموتى كما تعامل الأحياء — بأوراق رسمية ورسوم مالية وقلب متحجر.
في النهاية، يبدو أن الإنسانية نفسها أصبحت تحتاج إلى تصريح، وأن من يعيش فقيرًا في هذا الوطن لا يُسمح له أن يموت إلا إذا دفع الثمن. فحين تتحول الرحمة إلى سلعة، لا يكون الفقر هو المأساة، بل اللامبالاة التي تحكم البلاد باسم الإدارة والعجز باسم السيادة.

