منذ احتلال العراق عام 2003، لم تتوقف الولايات المتحدة عن تعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في البلاد، مستخدمة شعارات "الديمقراطية" و"مكافحة الإرهاب" كغطاء لتحويل العراق إلى ساحة نفوذ دائم، ضمن مشروع استراتيجي يتجاوز حدود بغداد ليخدم أهدافًا إقليمية أوسع، في مقدمتها تأمين المصالح الأمريكية في الطاقة وإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية بما يخدم أمنها وأمن حلفائها.

 

ومع مرور أكثر من عقدين على الغزو الأمريكي، لم يعد خافيًا أن المشروع الأمريكي في العراق كان أقل اهتمامًا بإرساء الديمقراطية، وأكثر التزامًا بخلق نظام هش قابل للضبط، يعتمد اقتصاديًا وأمنيًا على الخارج، ويعاني من انقسامات داخلية تمنعه من تشكيل سياسة وطنية مستقلة.

 

أهداف أمريكية عابرة للحكومات

 

السياسة الأمريكية في العراق لم تتغير كثيرًا بتغير الإدارات في واشنطن، إذ حافظت على ثلاث ركائز أساسية:

 

ضمان السيطرة على موارد الطاقة: العراق يمتلك رابع أكبر احتياطي نفطي في العالم، وقد حرصت واشنطن منذ اللحظة الأولى على تأمين وصول شركاتها ومصالحها إلى هذا المورد الحيوي.

 

إضعاف القوى المناوئة: مثل إيران أو أي تيارات وطنية قد تطالب بخروج القوات الأجنبية، من خلال دعم قوى محلية تدور في فلك التبعية، أو إشعال التناقضات الطائفية والسياسية لإبقاء البلاد في حالة استنزاف دائم.

 

تأمين مصالح إسرائيل: وهو هدف غير معلن رسميًا، لكنه حاضر في التنسيق العسكري والاستخباري، وفي رسم خريطة التحالفات الإقليمية التي تستهدف كسر أي محور مقاوم في المنطقة.

 

نخب حاكمة على مقاس الاحتلال

 

بعد الغزو، نشأت طبقة سياسية جديدة ربطت مصيرها بالوجود الأمريكي. هذه النخب ـ كما يقول المحلل السياسي لقاء مكي ـ لم تكن نتاج حراك وطني أو برنامج تنموي، بل نتيجة تفاهمات بين واشنطن وطيف من القوى المحلية المتعددة الولاءات.

 

في تغريداته وتحليلاته، يصف مكي الوضع بأنه "تجريب سياسي دائم"، ويشير إلى أن العراق أصبح "بيئة اختبار للنموذج الأمريكي في المنطقة"، مشددًا على أن السياسات التي تتبعها الحكومات العراقية المتعاقبة لا تخدم المواطن بقدر ما تخدم شبكات النفوذ الغربية.

 

اقتصاد تابع وسيادة مفقودة

 

الوجود الأمريكي لم يقتصر على القواعد العسكرية أو النفوذ السياسي، بل امتد ليشمل السيطرة على مفاصل الاقتصاد، عبر دور مباشر لمؤسسات أمريكية في القطاع المصرفي، والسياسات النقدية التي تُدار بتوجيهات من واشنطن أو بالتنسيق مع صندوق النقد والبنك الدولي.

 

ورغم الثروات الهائلة، يعاني العراق من:

 

تضخم في القطاع العام دون تنمية حقيقية.

 

ارتفاع نسب الفقر والبطالة، خصوصًا في المحافظات الجنوبية.

 

فساد مستشرٍ داخل الطبقة الحاكمة، مع غياب المحاسبة أو الرقابة الجادة.

 

إخفاق تام في ملف الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة، رغم إنفاق عشرات المليارات.

 

والنتيجة: دولة شبه مشلولة تعتمد على إيرادات النفط فقط، دون صناعة أو زراعة فاعلة، تحت وصاية مالية غير معلنة.

 

فساد ممنهج وطبقة محمية

 

المثير أن كل هذا التدهور جرى تحت أنظار و"رعاية" الولايات المتحدة، التي تغاضت عن ملف الفساد، طالما بقيت الحكومة العراقية ضمن حدود الدور المرسوم لها.


ومع غياب أي مشروع وطني حقيقي، اتسعت الهوة بين الطبقة الحاكمة ـ المستفيدة من الامتيازات والعقود ـ وبين الشعب العراقي، الذي يعيش في حالة من الإحباط المزمن واليأس من الإصلاح.

 

واخيرا  نداء للسيادة المغيبة

 

إن المشروع الأمريكي في العراق لا يمكن تقييمه إلا من خلال نتائجه: فوضى سياسية، اقتصاد ريعي، تبعية خارجية، وتدمير ممنهج لقدرات الدولة.


وفي ظل هذا المشهد، تبرز أصوات مثل لقاء مكي كأصوات وطنية نادرة، تطالب بكشف الحقيقة، وتدعو إلى استعادة القرار العراقي من براثن التدخل الخارجي.

 

لكن يبقى السؤال: هل هناك إرادة سياسية حقيقية داخل العراق لمواجهة المشروع الأمريكي؟


أم أن البلاد ستبقى رهينة لحسابات خارجية، تُدار على أراضٍ أنهكها الغزو، وغيّبها الفساد، وسكتت فيها الدولة أمام الهيمنة، تحت غطاء "الشراكة" و"التحالف الاستراتيجي"؟