في وثيقة صادرة عن رئاسة الجمهورية موجهة إلى وزارة الأوقاف، والتي كشف عنها الصحفي والمدون وائل عباس، ظهرت ملامح ما وصفه كثيرون بـ"خطة لاقتلاع الذاكرة الحيّة للقاهرة الفاطمية"، تحت لافتة براقة تحمل عنوان: "مشروع تطوير منطقة الحسين والقاهرة التاريخية".

 

لكن ما تحمله الوثيقة لا يبدو تطويرًا بقدر ما هو مخطط ممنهج لإزالة منازل المواطنين، وتفريغ المنطقة من سكانها الأصليين، بما يمثّل تهديدًا مباشرًا للنسيج الاجتماعي والإنساني في قلب القاهرة.

 

الوثيقة: أوامر عليا بإخلاء.. لا حوار مع السكان

 

تشير الوثيقة إلى أوامر مباشرة بإزالة عدد من العقارات والمنازل المحيطة بمنطقة مسجد الحسين، والشارع المؤدي إلى باب زويلة، والعديد من الحارات والأزقة التاريخية التي ظلت مأهولة منذ قرون، بحجة "فتح المحاور"، و"إعادة التأهيل السياحي"، و"تنظيف الواجهة الحضارية".

 

لكنّها لا تذكر أي خطة بديلة لإعادة توطين السكان، أو حتى تعويضهم تعويضًا عادلًا. بل تأتي اللغة جافة، أمنية، وذات طابع فوقي، لا تتيح للسكان حق الاعتراض أو التفاوض، وهو ما وصفه عباس بأنه "إدارة بوليسية للتراث والتاريخ".

 

تطهير حضاري؟

 

مشاريع التطوير عادة ما تأتي مصحوبة بخطاب احتفالي في الإعلام الرسمي: "نريد وجهًا يليق بالحضارة"، "نحو مصر جديدة"، "القاهرة تتحول لعاصمة سياحية عالمية". لكن هذا الخطاب، كما يراه العديد من النشطاء والباحثين، يخفي وراءه توجهًا واضحًا نحو "تطهير حضاري" — أي التخلص من السكان الأصليين الفقراء، لصالح استثمارات فندقية وتجارية كبرى تستهدف شريحة من الأثرياء والسياح.

 

يقول أحد سكان حي الخيامية، أحد الأحياء المتأثرة بالخطة، في حديث لاحد المواقع: "هم لا يروننا. نحن مجرد عوائق في طريق الكافيهات الجديدة، والأسواق الفاخرة. كل ما نريده هو بيتنا، حياتنا، لا نمانع الترميم أو التنظيم، لكن لماذا يُزال كل شيء؟".

 

أين التراث الحي؟

 

النقطة الأهم التي تثيرها هذه الوثيقة هي ما وصفه خبراء في العمران والنقد الحضري بـ"الموت البطيء للتراث الحي".


فالقاهرة الفاطمية ليست مجرد أحجار ومساجد وأبواب تاريخية، بل نسيج اجتماعي واقتصادي حي، فيه العائلات التي توارثت الحرف، الأسواق القديمة، العادات، وحتى الأصوات وروائح المطبخ الشعبي.

 

ومع غياب السكان، يتحول الحي إلى ما يشبه متحفًا ميتًا، بلا روح، بلا تفاعل. وربما هذا هو التطوير الذي تريده السلطة: أماكن نظيفة، لامعة، فارغة، يمكن التحكم فيها بالكامل، بعيدة عن العشوائية أو التلقائية.

 

مشروع مغلق بلا مشاركة مجتمعية

 

ما يثير القلق أكثر أن المشروع، بحسب الوثيقة، يُدار بالكامل من أعلى، دون أي مشاركة من الأهالي أو المجتمع المدني أو خبراء التراث المستقلين.

 

ولا توجد أي آلية شفافة للنقاش أو التفاوض، في تجاهل صارخ لكل معايير "التطوير الحضري العادل" التي تضمن للناس الحق في بيئتهم ومنازلهم.

 

حتى وزارة الأوقاف، التي من المفترض أن تكون مسؤولة عن حفظ الوقف الإسلامي، تبدو وكأنها مجرد منفذة لأوامر عليا، دون اعتراض على إزالة مساجد صغيرة، أو محال وقفية، أو بيوت تاريخية مأهولة.

 

من يدفع الثمن؟

 

في النهاية، من يدفع الثمن هم الناس العاديون، الذين سيُهجرون من بيوتهم، بلا ضمانات حقيقية، وبلا صوت. بينما تُفتح المنطقة أمام استثمارات ضخمة، غالبًا ما تحتكرها جهات سيادية أو شركات كبرى، لتتحول القاهرة الفاطمية إلى نسخة "مطهرة" من نفسها، بلا ناس، بلا روح.

 

هل هذه هي القاهرة التي نريد؟

 

الوثيقة التي كشفها وائل عباس ليست فقط دليلاً على خطط الإزالة، بل هي مرآة تعكس عقلية الدولة في التعامل مع التاريخ والناس: نُطوّر بالقوة، نُزيل بلا حوار، ونُشيّد على أنقاض الذاكرة.

 

في هذا السياق، لم تعد المسألة تطويرًا عمرانيًا، بل تطويرًا بالقمع والإقصاء. وإذا لم يُفتح حوار حقيقي مع السكان، وإذا استمر التعامل الأمني مع التاريخ والناس، فإن القاهرة التي نعرفها، بإنسانها وشارعها، ستكون في طريقها للاختفاء.