منذ ستينيات القرن الماضي، كان الساحل الشمالي لمصر، الممتد على طول 650 ميلاً، بمثابة المصيف الحصري للنخبة الثرية في البلاد. أما اليوم، فقد تحول هذا الشريط الساحلي إلى ما يشبه ساحة تخارج حكومية عاجلة، حيث تُباع أثمن أراضي الدولة في صفقات ضخمة معلنة، وصفقات أخرى غامضة، تحت شعار "التنمية والتطوير".
لكن وراء الأرقام الفلكية والوعود البراقة، تكمن قصة مقلقة عن التفريط في السيادة، وتعميق الفجوة الطبقية، ورهن مستقبل البلاد مقابل سيولة نقدية عاجلة، في نموذج اقتصادي يثير تساؤلات جدية حول من المستفيد الحقيقي.
صفقات الإنقاذ التي لا تنتهي
على مدار العقدين الماضيين، تم ضخ ما يقدر بـ 70 مليار دولار في مشاريع عملاقة بالساحل الشمالي. لكن هذا الرقم يتضاءل أمام ما هو قادم، حيث من المتوقع ضخ استثمارات إضافية لا تقل عن 150 مليار دولار في العقود المقبلة، وفقاً لتحليل أجرته شركة "برايس ووترهاوس كوبرز الشرق الأوسط".
مصدر هذه الأموال واضح: دول الخليج، التي استثمرت 59 مليار دولار في مصر منذ عام 2021، وفقاً لشركة "نايت فرانك". وبينما تُناقش قطر مشروعاً سياحياً بقيمة 3.5 مليار دولار، جاءت الضربة الكبرى في عام 2025 حين حصلت مصر على أكبر استثمار أجنبي منفرد في تاريخها: 35 مليار دولار من صندوق الثروة السيادي الإماراتي، منها 24 مليار دولار مقابل حقوق تطوير رأس الحكمة.
يصف تيموثي قلدس، نائب مدير "معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط" في واشنطن، هذا التدفق بأنه ليس استثماراً بالمعنى التقليدي، بل هو "إنقاذ" نابع من الوضع المالي المتدهور في مصر. ويقول: "على مدار العقد الماضي، دأبت دول الخليج، إلى جانب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، على إنقاذ مصر خوفًا من تبعات انهيارها". فبين عامي 2013 و2016 وحدها، قدمت الإمارات والسعودية والكويت حوالي 30 مليار دولار كمساعدات. لكن المحللين يؤكدون أن الصبر قد نفد، والمستثمرون الخليجيون يبحثون الآن عن عوائد ملموسة على أموالهم، وليس مجرد دعم سياسي.
رأس الحكمة: "منطقة حرة" على أرض مصرية؟
تعتبر صفقة رأس الحكمة النموذج الأكثر إثارة للقلق. فشركة "مُدن القابضة"، ومقرها أبوظبي، ستتولى تطوير شبه جزيرة تبلغ مساحتها 170 كيلومترًا مربعًا - أي تقريبًا بنفس مساحة العاصمة الأمريكية واشنطن. لكن الأخطر من الحجم هو طبيعة الصفقة. يحذر قلدس من أن المشروع سيشمل "منطقة حرة، مع ترتيبات ضريبية وجمركية خاصة بها"، الأمر الذي "يزيد من التساؤلات حول الحفاظ على سيادة الدولة على الأراضي المصرية، بسبب هذه التنازلات الكبيرة للقوى الإقليمية".
ورغم أن الحكومة المصرية تمتلك حصة مبدئية قدرها 35% في المشروع، إلا أن الشفافية محدودة للغاية بشأن هيكل الصفقة. والأسوأ من ذلك، أن دافع الضرائب المصري سيتحمل تكاليف البنية التحتية الرئيسية. فقد اعترف الدكتور عبدالخالق إبراهيم، نائب وزير الإسكان، في رسالة لشبكة CNN، بأن الحكومة "مسؤولة عن توفير البنية التحتية الرئيسية للمشروع، بما في ذلك الكهرباء والاتصالات وإمدادات المياه". أي أن الدولة المصرية تبني البنية التحتية من مالها العام، لتخدم مدينة مغلقة يمتلكها ويديرها ويجني أرباحها مستثمر أجنبي.
جنة الأثرياء وفقاعة عقارية
تسوّق الحكومة لهذه المشاريع على أمل جذب 30 مليون سائح سنوياً بحلول عام 2030، ارتفاعاً من الرقم القياسي البالغ 15.7 مليون زائر في عام 2024. لكن الواقع أن هذه المنتجعات تتحول إلى مدن أشباح معظم أيام السنة، وملاعب حصرية للأثرياء.
الأرقام تتحدث عن نفسها. نصف الأفراد ذوي الثروات الكبيرة في الخليج يبحثون عن منازل لقضاء العطلات في مصر. وفي يونيو الماضي، ارتفعت أسعار الفلل بنسبة 15.8% على أساس سنوي، ليصل متوسط سعر المتر المربع إلى 20 ألف جنيه مصري (420 دولارًا). وعندما طُرحت أولى عقارات رأس الحكمة للبيع على الخارطة، تم تحقيق مبيعات بقيمة 10 مليارات جنيه مصري (210 ملايين دولار) خلال أول 48 ساعة فقط.
هذا الازدهار ليس علامة على قوة الاقتصاد، بل على مرضه. فانخفاض قيمة العملة العام الماضي دفع الأثرياء للاستثمار في العقارات للحفاظ على مدخراتهم، بينما أدى التضخم الجامح إلى ارتفاع تكاليف البناء، مما خلق فقاعة عقارية تغذيها المضاربات، وتجعل حلم امتلاك منزل مستحيلاً على الأغلبية الساحقة من المصريين.
يتباهى محمد علي راشد العبار، مؤسس شركة "إعمار" العقارية، بأن أسعار الشقق في مشروع "مراسي"، الذي استثمرت فيه الشركة 4 مليارات دولار، كانت تبدأ من 60 ألف دولار، والآن "حقق البعض أرباحاً تفوق قيمتها الحقيقية بخمسة أضعاف"، حيث يصل سعر المتر المربع إلى 13,500 دولار. وعلى الرغم من أن المشروع يوظف حوالي 20 ألف شخص واستقبل 4 ملايين سائح منذ إبريل، إلا أن هذه الأرقام تخفي حقيقة أن الأرباح الطائلة تذهب للمستثمر الأجنبي، بينما تحصل مصر على وظائف موسمية منخفضة الأجر مقابل التفريط في أغلى أصولها. ومؤخراً، وافقت الحكومة على توسعة المشروع باستثمارات إضافية بقيمة مليار دولار.
في خضم هذه الاحتفالية بالمليارات، يغيب السؤال الأهم: ما الذي يعود على المواطن المصري العادي من بيع ساحل بلاده؟ الإجابة، حتى الآن، هي لا شيء سوى مشاهدة جنة مغلقة من بعيد، والمساهمة في دفع فاتورة بنيتها التحتية من ضرائبه، بينما تذهب الأرباح والعوائد إلى جيوب المستثمرين الأجانب، الذين تحولوا من "منقذين" إلى مُلاك جدد لأجمل بقاع مصر.