في تحول مفاجئ في نبرته السياسية، تحدث قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي مؤخرًا عن “أهمية الحفاظ على مناخ الحرية الحقيقية في مصر”، مؤكدًا أن هذه الحرية يجب أن تكون “منضبطة” ولا تؤدي إلى الفوضى أو تهدد استقرار الدولة. لكن رغم مظهر الخطاب الإيجابي، فإن الحديث عن الحرية من فم رأس نظام قمعي يمثل مفارقة صارخة، إذ يراه مراقبون محاولة جديدة من السيسي لتجميل وجه النظام أمام الداخل والخارج، دون أن يغيّر جوهر سياساته الاستبدادية.
خطاب الحرية.. أم فزاعة الفوضى؟
السيسي الذي بنى حكمه على القبضة الأمنية وتكميم الأفواه، خرج فجأة ليحذّر المصريين من “هدم بلدهم مجددًا”، وكأنه يعيد إنتاج فزاعة الثورة التي طالما استخدمها لتخويف الشارع. فبينما يدّعي أن الحرية مطلوبة، يربطها دومًا بالفوضى والانهيار، ما يعكس عقيدته السياسية القائمة على الخوف من الشعب لا الثقة فيه.
تصريحاته لم تأتِ في فراغ، بل في لحظة توتر داخلي متصاعد، وسط موجات غضب اقتصادي واحتقان اجتماعي وتنامي حركات احتجاجية مثل حركة “زد”، التي باتت تعبّر عن وعي شبابي غاضب يرفض استمرار الفشل والفساد. ولهذا، فإن خطاب السيسي يبدو أشبه بجرعة تهدئة سياسية لتنفيس الغضب الشعبي لا إعلان انفتاح حقيقي.
بين الصورة الدولية والواقع القمعي
يحاول السيسي من خلال هذا التحول اللفظي أن يقدّم نفسه أمام العالم كزعيم إصلاحي يوازن بين الأمن والحرية، في ظل ضغوط دولية متزايدة من واشنطن وبروكسل بشأن ملف حقوق الإنسان. لكن الواقع الميداني في مصر يكذّب هذه الصورة تمامًا. فالسجون المصرية ما زالت مكتظة بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين، بينهم صحفيون وطلاب وحقوقيون، بينما تواصل أجهزة الأمن حملات الاعتقال والملاحقات لمجرد منشور على وسائل التواصل.
تقرير منظمة العفو الدولية الأخير وثّق استمرار الاعتقالات التعسفية والتعذيب ومنع الزيارات عن المعتقلين، ما يفضح تناقض الخطاب الرئاسي الذي يتحدث عن “الحرية الحقيقية” بينما يمارس القمع ذاته الذي أنكره.
الحرية بشروط النظام
يتضح من الخطاب أن “الحرية” التي يريدها السيسي ليست حرية الرأي ولا النقد، بل حرية تحت الوصاية. فهو يريد حرية لا تقترب من الحكم، ولا تفتح ملفات الفساد، ولا تشكك في قرارات النظام. هذه حرية تجميلية محكومة بضوابط أمنية مشددة، تسمح بالتنفيس لا بالمحاسبة، وبالكلام الموجّه لا بحرية التعبير الحقيقية.
فما يقصده السيسي بـ“الحرية المنضبطة” هو في الحقيقة الحرية التي لا تزعجه، الحرية التي تظل تحت سقف الأمن القومي كما يعرّفه هو، لا كما تنص عليه القوانين والدساتير.
خطاب الخوف لا الإصلاح
يقرأ المراقبون هذا الخطاب على أنه رسالة موجهة للشباب الثائر أكثر من كونه طرحًا إصلاحيًا. فالسيسي، الذي يدرك تصاعد حالة الغليان الشعبي، يحاول استباق أي تحرك في الشارع بخطاب مموّه يجمع بين “اللين اللفظي” و“الصرامة الأمنية”.
حديثه عن “الحرية التي لا تهدم الدولة” هو تذكير مبطّن بثمن الثورة، ومحاولة لتثبيت فكرة أن أي محاولة للتغيير ستكون مؤامرة على الوطن، وهي نفس اللغة التي استخدمها النظام لتبرير القمع منذ 2013.
تناقض القول والفعل
يتزامن هذا الخطاب مع استعداد النظام لجولة جديدة من “الإصلاحات الاقتصادية” التي ستفرض أعباء إضافية على المواطنين. لذلك، فإن الحديث عن الحرية هنا ليس سوى غطاء سياسي مسبق لاحتواء الغضب المتوقع، حيث يحاول النظام الإيحاء بأنه يسمع الناس بينما يستعد لمزيد من الإجراءات المؤلمة.
ورغم حديث السيسي عن تجديد مؤسسات الدولة وضخ دماء جديدة، إلا أن التغيير لا يتجاوز الوجوه، فيما تبقى البنية الحاكمة كما هي: سلطة مغلقة، أمن متحكم، ومجال عام ميت.
الخلاصة أن خطاب السيسي عن “الحرية المنضبطة” هو رسالة خوف لا إصلاح، إذ يعكس خشية النظام من اتساع رقعة الغضب الشعبي أكثر مما يعكس إيمانًا حقيقيًا بالديمقراطية. إنه خطاب مصمم لطمأنة الخارج واحتواء الداخل، لكنه لا يغير واقع القمع القائم.
فالحرية في مصر لا تحتاج إلى “انضباط” بقدر ما تحتاج إلى عدالة حقيقية ومؤسسات مستقلة وصوت شعبي مسموع. وما لم يتحقق ذلك، سيبقى الحديث عن الحرية مجرد ديكور سياسي في دولة تزداد فيها القيود يوماً بعد يوم.