تبدو مصر اليوم وكأنها تعيد إنتاج أخطاء حقبة ما قبل 2011، لكن بأدوات أكثر جرأة وغلاف سياسي محكم. فبدلًا من رجال أعمال الحزب الوطني المنحل، يفرّخ نظام عبد الفتاح السيسي عشرات الوجوه الجديدة المنتمية إلى أحزابه الموالية — وعلى رأسها حزب "مستقبل وطن" — الذين تحول بعضهم إلى واجهات مالية تستغل الصفة الحزبية لتوسيع شبكات النصب وتوظيف الأموال تحت حماية النفوذ.
القضية الأخيرة الخاصة بالقبض على رجل الأعمال محمد عبد الحكيم الناعوتي، أمين عام مساعد حزب "مستقبل وطن" في مصر القديمة، تفتح نافذة على هذه المنظومة، إذ تشير التحقيقات إلى تورطه في توظيف أموال تتجاوز 750 مليون جنيه من مواطنين بحجة استثمارها في العقارات، قبل أن يتوقف عن السداد، ما دفع العشرات لتقديم بلاغات ضده.
حزب "مستقبل وطن" في مرمى الشبهات
الناعوتي لم يكن مجرد رجل أعمال، بل مسؤول حزبي داخل هيكل حزب السيسي الرئيسي، وهو ما يضع الحزب أمام تساؤلات عن مدى الرقابة الداخلية على كوادره.
رغم ذلك، اختارت بعض المواقع المحلية حذف اسم الحزب من أخبارها بعد ساعات من النشر، مكتفية بتعبير “رجل أعمال شهير” بدلًا من “قيادي بحزب شهير”، في مؤشر على رقابة ذاتية وتحرير سياسي يخشى المساس بصورة الحزب الحاكم عشية استحقاقات انتخابية.
بحسب أرشيفات المواقع نفسها، فقد احتفظت النسخ الأولى من الأخبار بعبارة “قيادي بحزب شهير”، قبل تعديلها لاحقًا، في خطوة تُظهر حساسية التعامل الإعلامي مع أي خبر يربط بين قضايا فساد وأحزاب السلطة.
ملفات الاتهام وتفاصيل التحقيقات
تُظهر البلاغات المقدمة إلى جهات التحقيق أن الناعوتي تلقى أموالًا من عشرات المودعين بحجة استثمارها في العقارات، ثم توقف عن ردها أو دفع الأرباح.
وتشير المصادر إلى تتبع تحويلات مالية بين حسابات الشركة وأفراد عائلته، إلى جانب عمليات نقدية خارج النظام المصرفي، في مخالفة محتملة لقانون 146 لسنة 1988 المنظم لتلقي الأموال من الجمهور دون ترخيص.
التحقيقات شملت فحص المستندات البنكية والعقود، وتتبع الأصول المحتجزة لاحتمال رد الأموال إلى أصحابها، وسط ترجيحات باتساع دائرة المتهمين مع تقدم التحريات.
من "مستريح السيارات" إلى "مستريح الحزب"
القضية ليست معزولة. ففي العامين الأخيرين، شهدت مصر موجة جديدة من قضايا "المستريحين" الذين جمعوا مئات الملايين من المواطنين عبر شبكات توظيف أموال.
لكن اللافت أن بعضهم يحمل صفات حزبية أو علاقات مباشرة بمسؤولين:
في 2024، أُلقي القبض على “مستريح الصعيد” المتهم بجمع أكثر من مليار جنيه من الأهالي بزعم استثمارها في تجارة الماشية، وتبين وجود اتصالات مع شخصيات نافذة في الحزب الحاكم.
في العام نفسه، تصدّرت قضية “مستريحة المنوفية” عناوين الصحف بعدما كشفت التحقيقات تلقيها دعمًا ضمنيًا من مسؤول محلي سابق سهل أنشطتها مقابل رشاوى مالية.
كما تورط موظفون سابقون في أجهزة تنفيذية في قضايا مشابهة، ما يثير تساؤلات حول بيئة سياسية واقتصادية ملوثة بالوساطة والمحسوبية.
فساد بنيوي في "دولة الاستثمار الزائف"
تكرار هذه القضايا داخل دائرة السلطة لا يمكن فصله عن طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي الحالي، حيث تُستخدم الأحزاب الموالية كأدوات ولاء لا ككيانات سياسية حقيقية.
وتحوّلت عضوية الحزب إلى درع حصانة اجتماعية تمنح الثقة للمواطنين البسطاء وتُستغل لاحقًا لجمع الأموال أو تمرير الصفقات.
وبينما يتحدث النظام عن "جمهورية جديدة"، تتسع على الأرض شبكة اقتصاد الظل الذي يديره مقربون من دوائر النفوذ أو منتحلو صفات حزبية، في ظل غياب الشفافية وتسييس العدالة.
دولة تغذي الفساد من الأعلى
تكشف قضية الناعوتي أن المشكلة ليست في الأفراد فقط، بل في البيئة السياسية التي تفرزهم.
فعندما تصبح الأحزاب مجرد أذرع لتلميع النظام، ويتحوّل الولاء إلى وسيلة للثراء السريع، تُعاد صياغة مشهد رجال مبارك بأسماء جديدة ووجوه أكثر جرأة.
وبينما يُساق صغار الموظفين إلى السجون بتهم بسيطة، ينجو "مستريحو السيسي" من الرقابة، محتمين بشبكة المصالح التي تربط المال بالسياسة.
إنها جمهورية الفساد لخدمة أصحاب النفوذ — لا تملك فقط أذرعًا أمنية، بل أيضًا أحزابًا تجميلية تغطي على النهب المنظم باسم التنمية والولاء الوطني.