تشهد مصر في السنوات الأخيرة ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الولادة القيصرية، حيث وصلت النسبة إلى نحو 72% من إجمالي الولادات عام 2023، وفقًا لتقارير وزارة الصحة والسكان بحكومة السيسي، ما يجعلها من أعلى المعدلات عالميًا. هذا التحول الدراماتيكي يثير تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراءه، ودور السياسات الحكومية في الحد أو تعزيز هذه الظاهرة، وسط تحذيرات من تداعيات صحية واقتصادية واجتماعية.

وعلى المستوى العالمي، شهدت معدلات الولادة القيصرية ارتفاعًا ملحوظًا خلال العقود الأخيرة. ووفقًا لتقرير "مراجعة سكان العالم" لعام 2021، جاءت جمهورية الدومينيكان في الصدارة بأعلى معدل، تلتها كل من تركيا ومصر والبرازيل، حيث تُجرى أكثر من نصف الولادات في هذه الدول عبر العمليات القيصرية.

 

أولًا: القيصرية كخيار طبي أم تجاري؟

وفق الطقوس الرومانية القديمة، لم يكن يسمح بدفن المرأة التي تموت أثناء الحمل أو الولادة والجنين ما يزال في رحمها، ولذلك كان يتم إجراء شق في بطنها لاستخراج الجنين في محاولة لإنقاذه أو لدفنهما بشكل منفصل.

ومن هنا، ارتبطت الولادة القيصرية في بدايتها باحتضار الأم أو وفاتها أثناء المخاض، ولم يكن مقدرا لها أن تختارها أغلب النساء طواعية كإجراء أسهل للإنجاب وأقل ألمًا، أو أن تسعى الدول لوضع سياسات تحد من انتشارها بعد أن أثبتت الدراسات العلمية مخاطرها على النساء والأطفال.

في الأصل، تُعد الولادة القيصرية إجراءً طبيًا يُلجأ إليه في حالات الضرورة، مثل تعسر الولادة أو وجود خطر على حياة الأم أو الجنين. لكن في مصر، تحولت القيصرية إلى خيار أول في كثير من الحالات، حتى دون وجود مبرر طبي واضح.

تشير دراسة صادرة عن منظمة الصحة العالمية إلى أن النسبة المثلى للولادة القيصرية يجب ألا تتجاوز 10–15%، ما يضع مصر في خانة الدول التي تعاني من "فرط التدخل الطبي غير المبرر".

الأطباء، خاصة في القطاع الخاص، يفضلون القيصرية لأسباب تتعلق بالربحية وسهولة الجدولة. فهي تستغرق وقتًا أقل، وتدر دخلًا أعلى، وتقلل من المخاطر القانونية المرتبطة بتعقيدات الولادة الطبيعية. هذا التوجه التجاري يتغذى على ضعف الرقابة، وغياب الحوافز التي تشجع على الولادة الطبيعية.

 

ثانيًا: النساء بين الألم والخوف والتضليل

من جهة أخرى، تلعب العوامل النفسية والثقافية دورًا مهمًا. كثير من النساء يفضلن القيصرية خوفًا من ألم الولادة الطبيعية، أو بناءً على تصورات خاطئة حول الأمان والسرعة.

في بعض المناطق الحضرية، أصبحت القيصرية تُنظر إليها كخيار "راقي" أو أكثر تحكمًا، خاصة مع انتشار الولادة المجدولة مسبقًا. هذا التحول في الثقافة المجتمعية يُعزز من الطلب على القيصرية، ويضعف من مكانة الولادة الطبيعية كخيار صحي أول.

 

ثالثًا: البنية التحتية الطبية في مأزق

في المستشفيات الحكومية، يعاني النظام الصحي من نقص حاد في الأجهزة والمعدات اللازمة لدعم الولادة الطبيعية، مثل أجهزة قياس نبض الجنين أو أدوات مراقبة تطور المخاض. كما أن تدريب الأطباء الجدد على الولادة الطبيعية أصبح محدودًا، ما يدفعهم نحو القيصرية كخيار أكثر أمانًا من وجهة نظرهم.

الضغط على المستشفيات العامة، ونقص الكوادر، وسوء توزيع الموارد، كلها عوامل تجعل من القيصرية حلًا عمليًا في ظل ظروف غير مثالية، وإن كانت على حساب صحة الأم والطفل.

 

رابعًا - أخطار الولادة القيصرية

منذ أن أجريت أول ولادة قيصرية على مريضة حية في عام 1500 بسويسرا على يد زوجها جاكوب نوفر، الذي كان يعمل راعيا للماشية، واستطاع إنقاذ زوجته بعد أن تأخر مخاضها وتعسرت ولادتها، تحولت هذه الجراحة إلى إجراء منقذ للحياة وطوق نجاة لبعض الحالات.

ومع ذلك، تظل الولادة القيصرية عملية جراحية كبرى محفوفة بالأخطار، ويتطلب التعافي منها وقتا أطول، وهو ما يجعل منظمة الصحة العالمية تحذر من اللجوء إليها إلا في الحالات الطبية الطارئة.

وتشير الدراسات إلى أن آثارها لا تقتصر على الأم فحسب، بل تمتد إلى الطفل أيضا، فقد أظهرت دراسة أسترالية عام 2007 أن الأطفال المولودين بعملية قيصرية أكثر عرضة للدخول إلى وحدات رعاية حديثي الولادة "الحضانات"، وأشارت الدراسة كذلك إلى زيادة احتمال حدوث مضاعفات في الحمل المستقبلي للأم، بما في ذلك خطر حدوث ولادة مبكرة أو ولادة جنين ميت.

أما بالنسبة للأمهات، فقد خلصت دراسة عالمية أجرتها منظمة الصحة العالمية في عام 2010 إلى أن حالات وفيات الأمهات وحالات الدخول إلى وحدات العناية المركزة ونقل الدم واستئصال الرحم كانت أعلى بـ3 أضعاف بين النساء اللاتي خضعن لعمليات قيصرية اختيارية مقارنة باللواتي أنجبن عبر ولادة طبيعية.

كشفت نائبة وزير الصحة لشؤون السكان وتنمية الأسرة، الدكتورة عبلة الألفي، لوسائل إعلام محلية، أن الولادة القيصرية ترتبط بأخطار عديدة على الطفل، ومن بينها احتمالية الإصابة بالتوحد وضعف الأداء الدراسي، إضافة إلى مشاكل تتعلق بتطور الجهاز المناعي واضطرابات المناعة الذاتية.

وأضافت أن هذا الإجراء يؤثر أيضا على تركيبة ميكروبيوم أمعاء الطفل ويزيد من خطر إصابته بالسمنة والربو، وبالنسبة للأم، فتمثل "المشيمة المتوغلة" أبرز التحديات، حيث قد تؤدي إلى حدوث نزيف حاد أو استئصال الرحم.

 

خامسًا: التداعيات الصحية والاقتصادية

الولادة القيصرية، رغم كونها آمنة في كثير من الحالات، ترتبط بزيادة خطر المضاعفات مثل النزيف، الالتهابات، وتأخر التعافي. كما أنها تؤثر على فرص الولادة الطبيعية في المستقبل، وتزيد من احتمالات الولادة المبكرة.

اقتصاديًا، تُعد القيصرية أكثر تكلفة على الأسر، خاصة في القطاع الخاص، حيث تتراوح تكلفتها بين 10 إلى 20 ألف جنيه، مقارنة بولادة طبيعية قد لا تتجاوز 3 آلاف جنيه.

كما أن ارتفاع معدلات القيصرية يضع عبئًا إضافيًا على النظام الصحي، من حيث الحاجة إلى غرف عمليات، أطقم طبية متخصصة، ورعاية ما بعد الولادة.

ارتفاع معدلات الولادة القيصرية في مصر ليس مجرد ظاهرة طبية، بل هو انعكاس لتشوهات بنيوية في النظام الصحي، وتغيرات ثقافية واجتماعية، وتقصير في السياسات الحكومية.

الحد من هذه الظاهرة يتطلب إصلاحًا شاملًا يبدأ من إعادة تأهيل البنية التحتية، مرورًا بتغيير الحوافز الاقتصادية، وانتهاءً بتثقيف النساء وتمكينهن من اتخاذ قرارات صحية واعية.