في منتصف سبتمبر 2025 كشفت لجنة تفتيش تابعة لمديرية الشؤون الصحية في مركز دشنا - محافظة قنا، صدفةً عن حفرة داخل أحد مكاتب الصحة تحولت إلى ممر وسرداب أفقي يُشتبه في أنه استُخدم للتنقيب غير المشروع عن الآثار.
بحسب معاينة النيابة الإدارية، الحفرة وصلت لعمق يقارب 4–5 أمتار ومنها مد خليج أفقي بطول نحو 6 أمتار، وعُثر داخل المكان على أدوات حفر ومخلفات تشير إلى عمليات متكررة. النيابة الإدارية باشرت تحقيقًا عاجلًا واستدعت مسؤولي المديرية للوقوف على الملابسات، بينما أفادت تقارير محلية بضبط 4 موظفين على صلة بالواقعة.
لماذا أثارت الواقعة ضجة؟
القلق لا يقتصر على غرابة العثور على سرداب داخل مؤسسة حكومية فقط، بل في ما يرمز إليه؛ تحول مبانٍ رسمية إلى مساحات تُستغل سريًا لأنشطة غير قانونية من دون رقابة فعلية أو مساءلة فورية.
إقدام موظفين داخل مرفق حكومي على إقامة ممر سرّي وفتحه يدلُّ، على أقل تقدير، على ثغرات إدارية كبيرة في الرقابة الداخلية وغياب محاسبة رادعة.
النيابة وصفت الواقعة بأنها مثيرة وأمرت بلجنة فنية لإعداد تقرير شامل، لكن السؤال الأكبر يبقى: كيف يُسمح لمثل هذا العمل أن يحدث داخل مؤسسة للدولة؟
نمط متكرر.. حالات سابقة ومآلاتها
هذه ليست حالة معزولة؛ في 19 يوليو 2024 ضبطت الأجهزة الأمنية في مركز أرمنت بالأقصر، أربعة أشخاص أثناء تنقيبهم عن آثار داخل عقار، حيث وُجدت حفرة بعمق 6 أمتار وبقطر نحو 3 أمتار، مع اعترافات وأدوات حفر.
وفي فبراير 2025 شهدت قرية بأوسيم بالجيزة، انهياراً ناجماً عن حفريات سرية تحت أحد المنازل إثر محاولات البحث عن كنوز فرعونية.
فيما توثّق تقارير سابقة حالات وفاة وحرائق ناجمة عن محاولات التنقيب داخل المنازل أو الجبال في الصعيد.
ظاهرة الحفر والتنقيب تحت المنازل ليست جديدة في مصر. ففي عام 2019، تم اكتشاف سرداب أثري تحت منزل في منطقة شعبية بالقاهرة كان سكانه يستخدمونه للتنقيب عن الآثار بهدف تحقيق أرباح سريعة.
في حادثة أخرى عام 2022، عُثر على سرداب في منطقة أثرية بشمال مصر حيث دُفن المئات من القطع الأثرية، وكان التنقيب يتم بشكل غير نظامي ودون رقابة.
كما تم رصد العديد من النقاط في صعيد مصر حيث يتم التنقيب بدافع الحاجة المادية والفرار من الفقر.
هذه الحوادث تتكرر سنويًا وتتنوع بين الضبط، والتحقيق، وأحيانًا الكارثة البشرية.
لا توجد إحصائيات رسمية دقيقة لحجم التنقيب السري والسراديب في مصر، لكن مصادر متخصصة تقدر سوق تجارة الآثار غير الرسمية بحوالي 20 مليار دولار سنوياً، ما يعكس مدى انتشار الظاهرة وكبر حجم السوق الموازية.
لماذا يلجأ المصريون إلى الحفر أسفل بيوتهم ومؤسساتهم؟
ثلاثة عوامل متداخلة تقود هذه الظاهرة:
- اليأس الاقتصادي والحوافز المالية: الفقر وعدم اليقين الاقتصادي يدفعان أشخاصًا للبحث عن فرصة ثروة سريعة في التراث.
مؤشرات البطالة المتذبذبة والفقر المعلَن عنه تخلق أرضية خصبة للمجازفة.
الجهاز المركزي يعلن تراجعًا في البطالة مؤخرًا (نحو 6–6.3% في أرباع 2024–2025)، لكن مؤشرات الفقر الوطنية تختلف بين تقارير حكومية والبنك الدولي، وهو ما يعكس أزمة معيشتية حقيقية وسُبل دخل ضئيلة لبعض الفئات الريفية والحضرية.
- سوق سوداء للآثار وضعف حماية التراث: الطلب على القطع الأثرية ووجود مهربين تجارهما يخلق دافعًا للبحث عن كنوز.
حتى مؤسسات وحفظ الآثار شهدت حالات سرقة، مؤخرًا كشف عن سرقة سوار أثري من معمل ترميم بالمتحف المصري وذُبِح لصهره وبيعه، ما يعكس ضعفًا في منظومة الحماية.
- ثقافة المخاطرة والتقليد المحلي: في مناطق أثرية متعددة تنشأ حركة تقليدية بين بعض السكان للبحث عن المساخيط أو الكنوز، وتنتقل أساليب الحفر عبر سنوات. مع تراجع الوظائف وفرص الدخل تُحوّل بعض العائلات هذا السعي إلى مغامرة اقتصادية خطرة.
تبعات بشرية وقانونية
النتيجة ليست مجرد آثار مادية مُهدَّرة، هناك فقدان لحياة، سقوط في حفر عميقة، انهيارات، وإمكانية تهريب قطع ثمينة لا تعوّض، بالإضافة لتولي الدولة تحرير محاضر واستدعاء مسؤولين ثم انتهاء الأمر غالبًا بعقوبات محدودة أو تحقيقات تؤجل معالجة الأسباب الجذرية.
كما أن استغلال مبانٍ حكومية ــكما في حالة دشناــ يضع علامة استفهام حول مدى تعميم الرقابة والحوكمة داخل مؤسسات الدولة.
من يحمي الحضارة ويقي المواطنين؟
حادثة دشنا يجب أن تكون بداية لقراءة نفسية واجتماعية وسياسية؛ ليست مسألة أفراد طائشين فحسب، بل تعبير عن فشل منظومة أوسع اقتصاديًا، واداريًا، وقانونيًا، في حماية المواطن والتراث معًا.
المطالب واضحة، تحقيق قضائي شفاف وسريع، محاسبة إدارية جنائية للمسؤولين عن الإهمال، برامج تنموية حقيقية تقلص حاجز الفقر، وتعزيز حماية الممتلكات الأثرية بتعاون مؤسسي محكم.