في تطور لافت، غاب قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي عن اجتماعات الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك سبتمبر 2025، وخاصة عن مؤتمر "حل الدولتين" الذي يعد من أهم الفعاليات السياسية المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي لعبت مصر دوراً محورياً في الوساطة الإقليمية حولها، ولم يحضر السيسي بنفسه، بل قرر أن يرسل رئيس حكومته مصطفى مدبولي ليرأس وفد مصر في هذا المؤتمر، فيما أوكلت وزارة الخارجية المتمثلة في بدر عبد العاطي إلقاء كلمة مصر في الجمعية العمومية.

هذا الغياب الذي جرى في توقيت شديد الحساسية، مع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة واستمرار التوترات في الشرق الأوسط، أثار تساؤلات واسعة وجدلاً سياسياً حول الدلالات الحقيقية لهذه الخطوة.

ففي وقت تحتاج فيه مصر إلى تعزيز موقفها كوسيط قوي وفعال، يبدو التراجع في حضور السيسي نوعاً من الانكفاء وتشتيت للدور المصري القيادي في المنطقة، في ظل تدهور الموقف الداخلي على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 

أسباب غياب السيسي رسمية وغير رسمية:

  1. التبرير الرسمي: انشغالات داخلية ودبلوماسية

حكومة الانقلاب برّرت الغياب بانشغالات رئاسية في الداخل أو لقاءات إقليمية أخرى، وقد شارك السيسي في مناسبات دولية بديلة خلال العام (زيارته لروسيا في مايو 2025 ومشاركاته في قمم إقليمية)، كما شارك عبر الفيديو في اجتماعات رفيعة أحيانًا بدل الحضور الشخصي، هذا التفسير الرسمي يقدّم غياب السيسي كمسألة لوجستية أو أولويات زمنية.

 

  1. خيار تجنّب الظهور المباشر أمام رقابة دولية وانتقادات

ترجمة الغياب إلى لغة نقدية تشير إلى أن السيسي قد يفضّل إبقاء تمثيل البلد في مؤتمرات حسّاسة على مستوى رئيس الحكومة لتفادي مواجهة مباشرة مع أسئلة محرجة عن حقوق الإنسان، الوضع الاقتصادي في مصر، أو اتهامات متكررة بتركيز السلطة.

الحضور الرسمي لمدبولي يسمح للنظام بالاحتفاظ بصورة دبلوماسية نشطة دون تعرض السيسي المباشر لمسائلة إعلامية أو دبلوماسية.

 

  1. احتياطات أمنية وسياسية في نيويورك

نيويورك بيئة سياسية متعدّدة الأصوات والضغط الإعلامي، وحضور رئيس دولة يفرض تعرّضًا أكبر لمبادرات نقاش أو احتجاجات أو دعوات للقاء مع معارضين.

إرسال رئيس حكومة الانقلاب يقلّل المخاطر السياسية والإعلامية، ويتيح إدارة ملف العلاقات الدولية من خلفية تقنية أكثر تحفظًا.

 

لماذا يهم هذا القرار؟

  • التصويت الدولي: قرار الجمعية العامة أو بيانات التأييد للحل القائم على دولتين حصلت على دعم واسع مثال: 142 دولة أيدت صيغة دولية تدعو لخطوات "ملموسة وزمنية" نحو حل الدولتين، هذا يضع مصر في موقف يحتاج إلى توازن بين دعم الحقوق الفلسطينية والحفاظ على علاقاتها الإقليمية والدولية.
  • الضغط الإقليمي والدولي: النزاع في غزة وما تبعه من أزمات إنسانية رفع من سقف التوقعات من القاهرة كلاعب وساطة أساسي؛ حضور رئيس الدولة كان يمكن أن يكون إشارة قوة، لكن غيابه أتاح لمصر "حضورًا تقنياً" عبر الوفد ليحافظ على دور الوسيط دون المجازفة بردود أفعال داخلية أو خارجية مكثفة.

 

أسباب اختيار مدبولي..

أعلن مجلس حكومة الانقلاب أن توجيه رئيس حكومته مصطفى مدبولي لترأس وفد مصر نيابة عن السيسي جاء للاستفادة من تركيز الدولة على الدبلوماسية المكثفة لحل القضية الفلسطينية سلمياً، ورفعت مصر في أجندة مدبولي خلال الزيارة إلقاء كلمتين في مناسبات متعددة:

الأولى: بمناسبة الذكرى الـ30 للمؤتمر العالمي للمرأة

الثانية: في المؤتمر الدولي الرفيع المستوى حول التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين.

ومدبولي حضر اجتماعات الجلسة الافتتاحية للشق رفيع المستوى، بالإضافة إلى عقده لقاءات ثنائية مع عدد من قادة الدول الشقيقة والصديقة وممثلي المنظمات الإقليمية والدولية، في محاولة للحفاظ على حضور دبلوماسي مصري مؤثر بديلاً عن الحضور الرئاسي المباشر.

 

المواقف الدولية وإعلان نيويورك لحل الدولتين

يأتي مؤتمر "حل الدولتين" بدعم واسع من قبل 142 دولة صوتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أطلق في أغسطس 2025 وأعيد تأكيده بالتزامن مع انعقاد المؤتمر، والذي يدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح جميع الرهائن، وتوحيد الضفة الغربية وقطاع غزة، واستعادة الحقوق الفلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

جامعة الدول العربية رحبت باعتماد الجمعية العامة لهذا الإعلان، مؤكدين أن الخطوة تعكس إجماعاً دولياً متزايداً لتطبيق حل الدولتين وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، كما أشادت مصر بهذا القرار الذي يعزز من مخرجات المؤتمر ويجسد التأييد الواسع للحقوق الفلسطينية.

 

ارتباك وتأجيل قرارات حاسمة

رغم كل هذه التوجيهات والتصريحات الرسمية، فإن غياب السيسي عن المؤتمر يحمل دلالات تشير إلى ضعف الحضور المصري على الصعيدين الإقليمي والدولي، خاصة وأن مصر أعلنت عن استعداداتها لمؤتمر حل الدولتين منذ يوليو 2025 بمشاركة رفيعة المستوى برئاسة مشتركة للسعودية وفرنسا، وكان من المتوقع حضور السيسي ليؤكد موقفه.

كما أن السؤال يبقى حول الأسباب الحقيقية التي دعت نظام الانقلاب إلى إسناد مهمة تمثيل مصر في مثل هذا الحدث المصيري لرئيس الوزراء ووزير الخارجية، في وقت تتصاعد فيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية داخل مصر وينتقد السيسي داخلياً بسبب السياسات الاقتصادية القاسية، وارتفاع معدلات التضخم، وتقهقر الحقوق المدنية والسياسية، ما يعكس اهتمامات متباينة بين السياسة الخارجية الفاعلة والحضور القوي وبين الأزمات الداخلية التي تلتهم موارد الدولة.

يرى كثير من النقاد أن هذه الخطوة تعكس حالة من انشغال النظام بتجميع أوراقه الداخلية أكثر من التعاطي بفعالية مع القضايا الكبرى، مع أن موقف مصر كان تقليدياً دائماً في تاريخها مع القضية الفلسطينية صلباً، وأن تراجع حضور السيسي يشكل هدية للإسرائيليين الذين يوسعون عملياتهم في غزة بلا رادع.

هذا بالإضافة إلى التقارير التي تتحدث عن تباين في مواقف النظام المصري مع بعض القوى الدولية حول الاستراتيجيات الإقليمية، ما يؤدي إلى حالة من الارتباك في المواقف.