منذ ما يقارب ثلاثة أسابيع، يواصل عمال مصانع السكر في إدفو وكوم أمبو بمحافظة أسوان ودشنا بقنا احتجاجاتهم العمالية، في مشهد بات يعكس عمق الأزمة الاجتماعية في مصر.
ودخلت الحركة العمالية يومها الثامن عشر على التوالي، رافعة مطالب مشروعة تتعلق بزيادة الرواتب وصرف العلاوات المتأخرة منذ عام 2016، في وقت قابلتهم فيه إدارات الشركات بالتهديد والوعيد، فيما لوّحت أجهزة الأمن الوطني باعتقال قادة الحراك. هذا التناقض بين إصرار العمال على حقوقهم، ورفض الإدارة الاستجابة، يضع مستقبل القطاع برمته على المحك.
اتساع رقعة الاحتجاجات
بدأت شرارة الإضرابات من مصنعَي إدفو وكوم أمبو في أسوان، حيث أطلق العمال صرخاتهم الأولى للمطالبة بالحقوق الضائعة. لم يمر وقت طويل حتى امتدت هذه الاحتجاجات إلى مصانع أرمنت بالأقصر ودشنا في قنا، قبل أن تصل أخيرًا إلى مجمع الحوامدية الصناعي بمحافظة الجيزة. هذا الانتشار السريع يعكس حجم الغضب الذي يعتمل في صدور أكثر من 10 آلاف عامل تابعين للشركة المصرية للسكر والصناعات التكاملية، التي تأسست منذ عام 1956 كواحدة من أبرز أذرع الدولة في القطاع الغذائي، والمملوكة بالكامل للشركة القابضة للصناعات الغذائية.
مطالب متكررة منذ سنوات
مطالب العمال ليست جديدة، لكنها متراكمة منذ سنوات طويلة من التهميش. فهم يطالبون أولًا بصرف العلاوات المتأخرة منذ عام 2016، والتي حُرموا منها رغم قرارات رسمية واضحة. كما يطالبون بزيادة الرواتب بما يتناسب مع ارتفاع معدلات التضخم الجنونية وغلاء المعيشة، خاصة أن متوسط أجورهم لا يتجاوز 5 آلاف جنيه شهريًا، وهو رقم متآكل أمام موجة الغلاء الراهنة. يضاف إلى ذلك مطلب أساسي بتوفير الخدمات الطبية والرعاية الصحية الملائمة، وهي غائبة بشكل شبه تام داخل المصانع، ما يضطر العمال لتحمل تكاليف العلاج على حسابهم الشخصي.
تهديدات الإدارة والسلطة
بدلًا من الاستجابة لمطالبهم، واجهت الإدارة الحراك العمالي بالتصعيد. إدارة مصنع دشنا وصفت الإضراب بأنه "غير قانوني"، بينما حذرت قيادات الأمن الوطني من اعتقال من أسموهم "محرّضي الاحتجاج". الأخطر كان في تصريحات رئيس الشركة القابضة، أيمن إسماعيل، خلال اجتماعه الأخير مع ممثلي النقابات، حيث لم يتردد في التلويح بخصخصة المصانع كخيار مطروح، في رسالة مباشرة بأن النظام ينظر إلى العمال باعتبارهم عبئًا ينبغي التخلص منه، بينما تُوجّه المليارات إلى العاصمة الإدارية الجديدة ورواتب الجنرالات.
الحوامدية تدخل على خط الاحتجاجات
في مشهد لافت، أعلن عمال مجمع الحوامدية الصناعي تضامنهم مع زملائهم في الصعيد، حيث أوقفوا العمل لساعات احتجاجًا على الأوضاع. حمل العمال لافتات كتب عليها: "لا لتهديد رئيس القابضة" و"نريد تنفيذ تعليمات الرئيس"، كما هتفوا بشعار "عايزين حقوقنا"، مؤكدين أن احتجاجهم ليس معزولًا وإنما هو امتداد لحركة واسعة تعبر عن قطاع بأكمله. هذه الخطوة أبرزت وحدة الصف العمالي، ورسخت أن القضية لم تعد محصورة بمصنع أو محافظة واحدة، بل باتت وطنية بامتياز.
الأجور والاستقطاعات.. معاناة مركبة
إلى جانب تدني الرواتب، يشكو العمال من خصومات جائرة تتراوح بين 700 و1000 جنيه شهريًا، تحت ذريعة إدخالهم في منظومة التأمين الصحي الشامل بأسوان منذ يوليو الماضي. إلا أن هذه المنظومة لم تقدم لهم الخدمة الطبية المرجوة، ما جعلهم يدفعون من رواتبهم المتآكلة مقابل وعود على الورق. هذه الازدواجية بين الخصم دون مقابل زادت من حدة الاحتقان، ورفعت منسوب الغضب ضد الإدارة والحكومة على حد سواء.
مطالب بسيطة وسط تهميش حكومي
لا يمكن النظر إلى هذه الاحتجاجات بمعزل عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الأوسع في مصر. فالإضرابات التي تتوسع يومًا بعد آخر تكشف عن هشاشة المنظومة العمالية وغياب آليات الحوار الجاد بين الحكومة والعمال. كما أن التهديد بالخصخصة يكشف عن توجه رسمي للتخلص من الصناعات الوطنية لصالح مستثمرين مقربين من السلطة، على حساب قوت عشرات الآلاف من الأسر. هذه الأزمة تحمل أيضًا دلالة سياسية، فهي مؤشر على أن سياسات الإنفاق الباذخ على المشاريع العقارية العملاقة لا تجد صدى في حياة العمال البسطاء، الذين لا يطلبون سوى الحد الأدنى من حقوقهم.
الخلاصة فإن ثمانية عشر يومًا من الصمود العمالي لم تُقابل إلا بالتهديد، لكن الرسالة التي يوجهها عمال مصانع السكر واضحة: الحقوق لا تسقط بالتقادم، والإصرار على المطالب أقوى من كل محاولات التخويف. في بلد تُهدر فيه المليارات على مشاريع استعراضية، يقف عمال السكر اليوم على خط المواجهة، كاشفين عمق الفجوة بين السلطة وشعبها. وإذا استمر تجاهل هذه المطالب، فإن المشهد مرشح لمزيد من التصعيد، ما يجعل أزمة مصانع السكر مرآة صافية للأزمة الأعمق التي تعصف بالمجتمع المصري كله.