شهدت منطقة المندرة شرق الإسكندرية حالة من الهلع والارتباك بعد إعلان الأجهزة التنفيذية بالمحافظة بدء هدم 11 طابقًا من أصل 21 طابقًا لعقار تعرض لميل مفاجئ، الأمر الذي استدعى إخلاءه على الفور حفاظًا على حياة السكان.
الحادثة ليست مجرد أزمة هندسية عابرة، بل تعكس عمق المشكلة المتجذرة في ملف البناء المخالف والعشوائي، وضعف الرقابة خلال العقود الماضية، والتي جعلت أرواح المواطنين على المحك.
إخلاء عاجل وحياة مهددة بالانهيار
مع رصد الميل الواضح في العقار، تحركت الأجهزة المحلية بشكل عاجل، حيث جرى إخلاء السكان بالكامل خلال الساعات الأولى، في مشهد اتسم بالتوتر والصدمة بين الأهالي الذين تركوا منازلهم بما فيها من ممتلكات، غير عارفين بمصيرهم أو مصير استثماراتهم العمرية.
بعضهم عبر عن امتنانه لإنقاذ حياته، بينما سادت حالة من الغضب واليأس نتيجة ضياع سنوات من الكفاح في شراء شقق سكنية تبين لاحقًا أنها غير آمنة هندسيًا.
الهدم الجزئي جاء بعد تقارير هندسية أكدت أن العقار لم يعد يتحمل وزنه الحالي، وأن استمرار بقائه دون تدخل قد يؤدي إلى انهيار كامل يهدد المنطقة المحيطة، خصوصًا في ظل وجود مبانٍ مماثلة ملاصقة له.
بناء عشوائي وغياب الرقابة
الأزمة أعادت للأذهان ملف العقارات المخالفة الذي يثقل كاهل الإسكندرية منذ سنوات، حيث تنتشر آلاف المباني التي شُيدت دون تراخيص سليمة أو بإشراف هندسي حقيقي.
العقار المائل لم يكن استثناءً؛ إذ تؤكد شهادات الأهالي أن المبنى أقيم بارتفاعات تفوق المسموح به في المنطقة، وبأساليب إنشائية غير مطابقة للاشتراطات.
الخبراء الهندسيون يشددون على أن مثل هذه الكوارث هي نتيجة مباشرة لتقاعس الأجهزة المحلية في فترات سابقة، وعدم محاسبة المقاولين والملاك الذين استغلوا ثغرات القانون وغياب المتابعة الدقيقة.
ورغم محاولات الدولة خلال الأعوام الأخيرة التصدي للبناء العشوائي، فإن حجم المشكلة يبدو أعمق من مجرد قرارات إزالة أو إخلاء عاجل.
معاناة السكان.. ضحايا الإهمال الإداري
الأهالي الذين أُجبروا على مغادرة منازلهم يواجهون اليوم واقعًا صعبًا. كثير منهم يؤكد أن مدخرات العمر ضاعت في شقق أصبحت أنقاضًا، بينما آخرون يتساءلون عن التعويضات التي وعدت بها المحافظة.
بعض الأسر لجأت للإقامة المؤقتة لدى أقاربها، فيما استأجر آخرون مساكن بديلة بانتظار حل حكومي قد يطول.
أصوات عديدة من داخل المنطقة تساءلت: "من يحاسب المقاول أو المالك الذي باع لنا شققًا في مبنى غير آمن؟"، معتبرين أن المسؤولية مشتركة بين من سمح بالبناء ومن لم يراقب ومن استفاد ماليًا على حساب الأرواح.
الإسكندرية على فوهة أزمة ممتدة
ما جرى في المندرة ليس حادثًا معزولًا، بل يمثل جرس إنذار متجدد لمدينة الإسكندرية التي تعاني تاريخيًا من انتشار العقارات المخالفة، خصوصًا في الأحياء الشعبية والشرقية.
تقارير محلية تشير إلى وجود آلاف الحالات المماثلة التي قد تتكرر معها الكارثة في أي وقت.
المحافظة من جانبها أكدت أنها ستواصل حملات الهدم والإزالة لكل مبنى غير آمن، حتى لو كان مأهولًا، مبررة ذلك بأن "الأرواح أهم من الحجر".
لكنها لم تقدم حتى الآن تصورًا شاملًا لمعالجة أزمة السكان الذين يجدون أنفسهم بين نار التشريد وهاجس انهيار منازلهم.
دروس من المأساة
أزمة عقار المندرة المائل تكشف أن البناء في مصر ليس مجرد طوب وأسمنت، بل قضية مرتبطة بالشفافية، والرقابة، وحقوق المواطنين.
فما فائدة الحديث عن التنمية العمرانية الجديدة بينما مبانٍ قائمة تنهار فوق أصحابها؟ وإذا لم تتعامل الدولة بجدية أكبر مع المقاولين الفاسدين والمسؤولين المتقاعسين، فإن الحوادث ستظل تتكرر، والأرواح ستظل الثمن الأغلى.
إنها مأساة عمرانية وإنسانية، عنوانها الإهمال الإداري والفساد المتراكم، وضحيتها الأولى المواطن البسيط الذي يشتري شقة ليؤمّن أسرته، فيجد نفسه بين الأنقاض.