في مشهد يعكس حجم العبث الذي يطال ملف استصلاح الأراضي في مصر، فوجئ مزارعو أسيوط الجديدة بقرار صادر عن جهاز المدينة بفرض مبلغ 750 ألف جنيه لتقنين الفدان الواحد من الأراضي المستصلحة والمزروعة منذ سنوات بجهد الأهالي وعرقهم.
القرار، الذي جاء بعد فضيحة إزالة مساحات مزروعة بالفعل، بدا للكثيرين وسيلة تعجيزية لإجبار المستصلحين على ترك الأرض تمهيدًا لنزعها وتسليمها إلى شركات ومضاربين مقربين من السلطة.
وفي الوقت الذي ترفع فيه الحكومة شعارات "تشجيع الزراعة" و"تحقيق الأمن الغذائي"، تكشف هذه الممارسات عن سياسة ممنهجة لطرد صغار المزارعين وإعادة توزيع الأرض بما يخدم مصالح فئة ضيقة من رجال الأعمال، وسط تجاهل صرخات المتضررين الذين يرون في القرار حكمًا بالإعدام على جهد سنوات طويلة من الكفاح.
وسيلة قهر جديدة ضد المزارعين
يرى المزارعون أن المبلغ المطلوب لتقنين الفدان ضربٌ من المستحيل، حيث يفوق بأضعاف ما استثمروه في استصلاح الأرض وزراعتها.
أحد المستصلحين قال: "زرعنا الأرض وحولناها من صحراء إلى خُضرة، فجاءت الدولة لتساومنا على تعبنا، وكأننا لصوص سرقنا الأرض"، مضيفًا أن القرار ليس سوى وسيلة قهر لإجبارهم على ترك الأراضي التي ارتبطت حياتهم بها.
ويشير آخرون إلى أن هذا النهج يأتي امتدادًا لسياسة الإزالات التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، حيث تم هدم مساحات مزروعة دون أي اعتبار للخسائر الفادحة التي تكبدها أصحابها.
خبراء: استهداف متعمد لصغار المستصلحين
الخبراء المعارضون يؤكدون أن ما يحدث ليس مجرد عشوائية إدارية، بل سياسة متعمدة تستهدف صغار المستصلحين لإفساح المجال أمام كبار المستثمرين.
الخبير الزراعي الدكتور حسين الشافعي وصف القرار بأنه "اغتيال للأمن الغذائي"، مشددًا على أن الدولة بدلًا من أن تدعم من يحول الصحراء إلى أرض منتجة، تفرض عليهم إتاوات غير قابلة للدفع.
ويرى آخرون أن هذه الممارسات ستؤدي إلى تقليص الرقعة الزراعية بدلًا من زيادتها، ما يفاقم أزمة الغذاء التي تعاني منها مصر أصلًا نتيجة الاعتماد المتزايد على الاستيراد.
شكاوى الأهالي: التمهيد لنزع الأراضي
بينما تحاول الجهات الرسمية تبرير القرار على أنه "إجراء قانوني لتقنين الأوضاع"، يرى الأهالي أن الهدف الحقيقي هو نزع الأراضي بحجة العجز عن السداد.
أحد المزارعين تساءل: "كيف يطلبون منا 750 ألف جنيه للفدان ونحن لم نجنِ من الأرض سوى بالكاد قوت يومنا؟"، مشيرًا إلى أن أغلب المستصلحين من محدودي الدخل الذين وضعوا كل مدخراتهم في الأرض.
ويضيف آخر: "الدولة لا تريد أن ترى الفلاح الصغير مالكًا، بل تريد أن تنزع منه الأرض لتسلمها للمحسوبين على النظام."
هذه الشكاوى تتناغم مع تجارب سابقة، حيث تم الاستيلاء على مساحات زراعية في مناطق مختلفة تحت ذرائع مشابهة.
تناقض الشعارات مع الواقع
المفارقة الكبرى تكمن في أن الحكومة لا تكف عن التفاخر بمشروعات "مستقبل مصر الزراعي" و"التوسع الأفقي في الزراعة"، بينما على الأرض تُفرغ هذه الشعارات من مضمونها عبر ممارسات طاردة للمزارعين الحقيقيين.
يقول أحد الحقوقيين: "الدولة تريد صورة إعلامية لمشروعات عملاقة، لكنها في الواقع تدمر كل مبادرة شعبية حقيقية للزراعة."
ويرى مراقبون أن قرار جهاز مدينة أسيوط الجديدة ليس مجرد خطأ إداري، بل انعكاس لرؤية اقتصادية منحازة لطبقة من رجال الأعمال على حساب الفلاحين، وهو ما يهدد بتحويل أزمة الغذاء في مصر إلى كارثة.
وفي النهاية ففرض 750 ألف جنيه لتقنين الفدان ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل استهداف المزارعين الصغار وتجريدهم من أراضيهم.
هذه السياسات، التي تجمع بين القهر والتعجيز، تكشف عن فجوة هائلة بين خطاب السلطة حول "التنمية الزراعية" وبين الواقع الذي يعيشه الفلاح المصري.
ومع استمرار هذه الممارسات، تتضاءل فرص تحقيق الأمن الغذائي ويزداد اعتماد مصر على الخارج، فيما يظل الفلاح الذي استصلح الأرض وزرعها هو الضحية الأولى لنظام لا يرى في جهده سوى فرصة للاستيلاء والإقصاء.