في مشهد يكشف عن أطماع لا حدود لها، تعود محافظة السويس إلى مسلسل استغلال الأراضي، لكن هذه المرة على حساب حرمة الموتى ومشاعر الأحياء.
تحت شعار «إنشاء حدائق عامة»، يطل علينا المحافظ الحالي اللواء طارق حامد الشاذلي بمخطط جديد يستهدف مقابر المسلمين في منطقة حوض الروض بحي الأربعين، في خطوة يرى كثيرون أنها ليست إلا ستارًا لبيع الأرض بملايين الجنيهات، كما حدث مرارًا في العقود الماضية.
فهل نحن أمام مشروع تطوير حضاري حقيقي، أم أمام أكبر عملية استيلاء ممنهج على أراضي المقابر في تاريخ السويس؟
خطة قديمة بوجه جديد: تاريخ طويل من استغلال أراضي المقابر
ليست هذه المرة الأولى التي تُطلق فيها محافظة السويس مثل هذه المخططات؛ فالتاريخ يعيد نفسه.
ففي ثمانينيات القرن الماضي، أعلنت المحافظة نقل مقابر شهداء السويس من مدخل المقابر بمنطقة حوض الروض إلى الكيلو 63 على طريق السويس – القاهرة الصحراوي، تحت ذريعة تطوير المكان وتحويله إلى حديقة عامة.
وبالفعل، أُنشئت الحديقة، لكن المفاجأة كانت بعد فترة وجيزة، عندما جرى تجريفها وتحويلها إلى موقف لسيارات الأجرة تابع لديوان عام المحافظة، يدر أرباحًا طائلة بنظام "الكارتة".
يقول الناشط الحقوقي محمد عبدالمجيد: "هذه ليست خطة تطوير، بل عملية استثمار على حساب الموتى والأحياء. تجربة الثمانينيات دليل دامغ على أن الهدف النهائي هو الربح فقط."
الحدائق المزعومة تتحول إلى مواقف وأبراج سكنية
لم يتوقف مسلسل الاستغلال عند هذا الحد، بل واصلت المحافظة طرح الأراضي المحيطة بالمقابر للبيع بمئات الملايين لصالح المقاولين والمستثمرين.
فوفقًا لتقديرات محلية، بلغت مساحة الأراضي التي جرى بيعها خلال العقود الماضية نحو 50 ألف متر مربع من أملاك الدولة في السويس، بيعت في صفقات تجاوزت قيمتها 400 مليون جنيه، بينها أراضي كانت تضم بيوت الشباب، وأخرى كانت مخصصة لمرافق عامة.
كما جرى بيع مساحة 15 ألف متر مربع في موقع ترعة السويس بعد ردمها بالكامل، وتحويل المنطقة إلى أبراج سكنية مغلقة.
ويؤكد الخبير العمراني أحمد جلال: "ما يجري ليس تخطيطًا حضريًا، بل بيع ممنهج لأصول المدينة. اختفت المرافق العامة وتحولت إلى مشروعات تجارية مغلقة لا تخدم المواطن العادي."
ازدواجية صارخة: لماذا مقابر المسلمين وحدها؟
الأمر الأكثر إثارة للجدل أن هذه المخططات لا تشمل إلا مقابر المسلمين، بينما تُستثنى مقابر الأقباط والجالية اليونانية ومقابر جنود الحلفاء من الحرب العالمية الثانية، والتي تحظى برعاية خاصة من دول الكومنولث.
هذا التمييز يثير علامات استفهام حول معايير العدالة والمساواة في إدارة هذا الملف.
يقول الناشط السويسي محمود الطاهر: "إذا كان الهدف هو التطوير الحضري، فلماذا تُستباح مقابر المسلمين فقط؟ أليس هذا تمييزًا واضحًا؟ ولماذا تُترك مقابر الأجانب كما هي؟"
أطماع بلا حدود: تحويل حرمة الموتى إلى تجارة مربحة
محافظة السويس تدرك أن آلاف المقابر في منطقة حوض الروض قديمة، خاصة بعد قرار منع الدفن هناك منذ سنوات، لكن ذلك لا ينفي أن لهذه المقابر أصحابًا من الأبناء والأحفاد الذين يزورون موتاهم بانتظام.
ومع ذلك، يبدو أن أطماع بعض المسؤولين لا تعرف حرمة ولا كرامة، لتتجدد الخطة القديمة بوجه جديد.
ويضيف الباحث المحلي حسن الدسوقي: "ما يحدث اليوم ليس مفاجأة، بل جزء من سياسة بيع الأراضي التي استمرت لعقود، حتى لو وصل الأمر إلى نبش القبور."
أمام هذا المخطط المثير للجدل، يبقى السؤال الذي يتردد في الشارع السويسي: هل سيتكرر السيناريو ذاته، حيث تتحول الحدائق الموعودة إلى مشروعات استثمارية ضخمة تدر مليارات على دوائر النفوذ؟
إن استهداف مقابر المسلمين دون غيرها يكشف عن تمييز فاضح وانعدام لأي اعتبار إنساني أو ديني، ويؤكد أن شهية المسؤولين للاستيلاء على الأراضي لم تشبع بعد، حتى لو كان الثمن هو نبش القبور وانتهاك حرمة الموتى.
وفي ظل غياب الشفافية والمحاسبة، تبدو هذه الفضيحة حلقة جديدة في مسلسل طويل عنوانه: "المال فوق كل شيء.. حتى فوق الأموات."