في واقعة غير مسبوقة، شهدت مدرسة أجهور الكبرى الإعدادية بمحافظة القليوبية رسوب أكثر من 400 طالب بالصفين الأول والثاني الإعدادي معًا في امتحانات نهاية العام 2025، ما فجّر غضبًا واسعًا بين أولياء الأمور وأثار أسئلة حادّة حول عدالة التقييم وكفاءة المنظومة.
تدخّل المحافظ المهندس أيمن عطية بشكل عاجل، وقرّر منح “درجات الرأفة” للراسبين وتشكيل لجان قانونية لمراجعة النتائج ومحاسبة المقصرين، بينما باشرت إدارة قها التعليمية تحرّكات عقابية ونقلت عددًا من المعلّمين على خلفية الأزمة.
هذا التدخل، رغم أنه هدّأ المشهد مؤقتًا، عرّى مشكلات بنيوية أعمق في التعليم قبل الجامعي.
قرارات سريعة… لكنها لا تعالج أصل الداء
التحرّك الإداري شمل نقل 5 معلمين من المدرسة كإجراء فوري، مع وعود بمراجعة كراسات الإجابة وإتاحة الرأفة للطلاب الذين تعثّروا بدرجة أو درجتين.
لكن خبراء تربية يحذّرون من أن المسكنات لا تصحّح فجوات المناهج والتقويم ونقص المعلمين وتكدّس الفصول، فالقرار يعالج العرض لا المرض، ويترك أسباب الرسوب الجماعي، من ضعف متابعة، وبدائية أدوات القياس، وضغط الكثافات، بلا حلول هيكلية.
أرقام صادمة
دستور ما بعد الانقلاب في 2014 يفرض حدًا أدنى للإنفاق على التعليم لا يقل عن 4% من الناتج المحلي للتعليم قبل الجامعي (و2% للتعليم العالي).
ورغم مرور عقد على النصّ، لا يزال الإنفاق الفعلي أدنى بكثير؛ إذ انخفضت حصة التعليم في موازنة 2024/2025 إلى نحو 1.7% بعد أن كانت 1.9% في 2023/2024، وفق تقدير مستقل.
بينما سبق أن أشارت تغطيات متخصصة إلى أن اعتمادات التعليم والصحة مجتمعة بقيت دون المستهدفات الدستورية لسنوات.
هذه الفجوة التمويلية تعني فصولًا أكثر ازدحامًا، ومعلمين أقل، وتدريبًا أضعف، ونظم تقويم متخلفة، وهي كلها عوامل ترفع كلفة الأخطاء وتُراكم احتمالات "رسوب جماعي".
المعلمون يتناقصون والكثافات ترتفع
بيانات رسمية حديثة تُظهر أن عدد المعلمين انخفض من نحو 1.10 مليون في 2022/2023 إلى 1.05 مليون في 2023/2024 تراجع يقارب 4% في عام واحد، رغم زيادة عدد المدارس إلى 73.2 ألف منشأة تعليمية وعِلمية دينية.
ومع كل معلّم يغادر بلا إحلال موازٍ، تزداد الأعباء على الباقين وتتدهور القدرة على المتابعة الفردية، ما ينعكس مباشرة على نتائج طلاب الإعدادي حيث تتطلب المواد الأساسية دعمًا لصيقًا
وعود حكومية.. وواقع لا يطاوع
في تصريحات حديثة، أكّد وزير التربية والتعليم أن الوزارة تعمل على إنهاء نظام “الفترة المسائية” في الابتدائي بحلول سبتمبر 2027 بالتنسيق مع هيئة الأبنية التعليمية، وعلى “اختيار القيادات بالكفاءة” وتحسين جودة المدارس، لكن هذه الوعود تصطدم بواقع التمويل والكوادر، كما أن الأزمات الميدانية مثل واقعة أجهور تُظهر أن ثغرات المتابعة والتقويم لا تزال قائمة.
حتى الوزارة نفسها تُقرّ بوجود دراسة مع “الأبنية التعليمية” لتقليص الفترات المسائية تدريجيًا، وهو اعتراف ضمني بحجم الضغط على البنية التحتية.
التعليم استثمارٌ لا يحتمل التأجيل
من منظور اقتصادي، تُجمع المؤسسات التنموية على أن كل جنيه يُستثمر في التعليم يعود بعوائد نموّ طويلة الأجل ويُقلّص الفجوات الاجتماعية، لكن استمرار الإنفاق دون الاستحقاق الدستوري وتراجع عدد المعلّمين يقود إلى “دوامة تعويض” مكلفة: دروس خصوصية، تسرّب قيمي، ومخرجات تعلم ضعيفة تُثقِل سوق العمل.
إن لم تُسدّ فجوة المعلمين وتُحدّث أدوات التقويم وتُخفَّض الكثافات، ستتكرر وقائع كأجهور في محافظات أخرى.
جدل شهادات الوزير
زاد التسييس من تعقيد المشهد؛ فمنذ التعديل الوزاري 2024، رافق تعيين وزير التعليم محمد عبد اللطيف جدلٌ واسع حول مؤهلاته الأكاديمية، بين اتهامات وشبهات من نواب وإعلاميين، ونفي وتأكيد من رئاسة الوزراء وإعلام موالٍ، مع دخول رجال أعمال على خط الجدل.
وفيما لم تُعلن السلطات نتيجة تحقيق قضائي حاسم للرأي العام، يبقى المؤكد أن انشغال رأس المنظومة بملف شرعية شهاداته يصرف الأنظار عن أولويات الإصلاح العاجلة، لذا نعرض الأمر هنا بوصفه “جدلًا قائمًا” لا حكمًا قضائيًا.
شهادة تعليمية.. لماذا وقعت أجهور تحديدًا؟
تؤشر أزمة أجهور إلى تفاعل أربع علل بنيوية:
- ضغط الكثافات ونقص المعلمين: تراجع هيكل القوى البشرية يقابله نمو سكاني ومناهج أثقل، ما يضعف المتابعة.
- تقويمٌ يختزل التعلّم في ورقة امتحان: في بيئة فقيرة بالمساندة والدعم النفسي والتربوي، تتحوّل الامتحانات إلى غربال قاسٍ بدل أن تكون أداة قياس إصلاحية. (استدلال تربوي تدعمه خطط القطاع).
- تمويل أقل من الاستحقاق: موارد غير كافية للصيانة والتدريب والدعم التكنولوجي.
- حوكمة مرتبكة: انتقالات وعقوبات “بعد الواقعة” لا “قبلها”، ومركزية خانقة تبطئ التدارك.
القرارات اللاحقة بنقل المعلمين ومنح الرأفة دليل ميداني على الاستجابة بعد الانفجار.
ما مسار الإنقاذ؟!
- مراجعة مستقلة للنتائج من لجنة تقويم خارجية على مستوى المديرية، ونشر تقريرها خلال أسابيع يُبيّن سبب الرسوب الجماعي مادةً مادةً، ويحدّد مسؤوليات الإدارة والمدرسين وآليات التظلم.
- خطة عاجلة لسد عجز المعلمين في المرحلة الإعدادية تحديدًا، بجدول تعيينات وتعاقدات مؤقتة مدعومة ماليًا، مقرون ببرنامج تدريب سريع على التقويم البنائي.
- خفض الكثافات عبر فتح فصول ملحقة وتشغيل منشآت قريبة بنظام تبادلي مؤقت، ريثما تُستكمل توسعات الأبنية التعليمية التي تتحدث عنها الوزارة.
- إصلاح التقويم بتحويل 30–40% من الدرجة إلى أعمال سنة ومشروعات، والحد من “مفاجآت” ورقة الامتحان النهائي كأداة وحيدة للحكم على مصير طالب. (مرجعية خطط القطاع 2023–2027).
فشل منظومة
حادثة أجهور ليست زلّة مدرسة، بل مرآة لفشل منظومة في ظل حكم يراكم العجز في التمويل والكوادر والحوكمة، إنفاق دون الاستحقاق الدستوري، هجرة معلمين بلا إحلال، وتوظيف سياسي لوزارة سيادية، كلها حلقات تؤدي إلى النتيجة نفسها: مخرجات تعليم أضعف، وتكافؤ فرص منتهك، وأزمات جماعية تُحلّ بـ“درجات رأفة” لا بإصلاح جاد.